لا القارئ يشك، ولا العراف يتعب، ولا الزعيم. السؤال الوحيد الذي ينهكني الآن: كيف عرف كاتبو الحكايات القديمة، أننا سنظل أغبياء بعد ألف عام على الحكاية ذاتها؟
كل الشاشات تستفهم: ماذا سيحصل لو دخلت أميركا الحرب الغامضة؟ لن يحصل شيء، المزيد من البشر وحسب، سيزداد يأسهم. ان أسباب اليأس موجودة دوما يحيط بها الخبراء، رغم ان الناس يتجنبون تصديق ذلك، فالعارفون متهمون بالتشاؤم. وأقصى ما تفعله الحرب هو كشف الستار عن سيناريوهات سوداء نتهرب منها.
لم يتغير شيء منذ تعرفنا على وجوه أمهاتنا، نفس المدافع التي تثرثر ليلا وتعلن أوامر الموت. كانت فعالة على الجبهات والبلدات الحدودية كالتي عشت فيها حتى مراهقتي. لكن المدافع تنشط اليوم في قلب المدن المنيعة. كل ما في الأمر ان "الضجر" غير الخطط. لقد مل العيارون والشطار واللصوص من بناء الجيوش وتعبئة المدفع بالقنابل، فصاروا يفخخون السيارات ببضعة منتحرين. كل واحدة تساوي عمل سبعة مدافع لساعتين، وجدوى بضعة فيالق مكلفة. وقد مل الشباب من الالتحاق بوحداتهم العسكرية البعيدة، فصاروا يقفون على ناصية الشارع، قرب المنزل او محل العمل، انتظارا للموت الذي يتجشم هو عناء المجيء اليهم.
لن يحصل شيء، فالاقوياء الغربيون سيبعثون شبابا بعمر الثانية والعشرين، يجلسون وراء مقود المقاتلات الشاهقة، ينظرون الى أوجاعنا من شاشة حاسوب يعمل بنظام ماك، ويضربون. ان لدى الأقوياء طوال الوقت، اسبابا لفتح قناني الشمبانيا، كما ان لدينا بالضبط دوافع ابدية للخوف. هم يحسبون المستقبل بالرياضيات على أنغام الجاز، ونحن في الغالب، نتصفح أسفار "الملاحم والفتن" لمتابعة خارطة الموت. لدى قادتنا عرافون بالكتب القديمة، يقصون عليهم ما سيحدث من اهوال. وحين يكتب عربي في الجريدة، شيئا عن السلام الروماني، وأن السياسة تعني تجنب الهزيمة وقياس موجبات السلام، يهزأ القائد الذي فرغ لتوه من اجتماع طويل في غرفة العرافين، وحدثوه عن كل الموت الذي سيحصل حسب الحكايات المنقولة عن الأجداد، ويردد بصوت مسموع: "ما جدوى السلام والسياسة ايها الابله".
لن يحصل شيء، فالديناميت والبارود، يخوضان نقاشا بصوت عال، حول نوع القضمة التالية. هناك موت وفير، والفرق اننا كنا نموت منفردين ونصعد الى السماء في درب موحشة ليس فيها سوى العراقيين. اما هذه الايام فإن موتانا يحظون برحلات "مشوقة"، اذ يصادفون في الطريق الى الأبدية، الكثير من العرب الميتين، وينشغلون بالثرثرة حول قبح تفاصيل الحياة، الى الابد.
انها مجرد "قواعد اشتباك جديدة"، فالشباب الذين تدخرهم الأمم للابتكار وتغيير الحياة، لا يجري استخدامهم هنا في الابتكار وتغيير الحياة، لذلك يحب زعماؤنا ان يملأوا بنا السجون، ومعسكرات التدريب، وقاعات التصفيق للقائد، والمسيرات المخدرة. الأمور سارت هكذا، ولم يكن لدينا ما نفعله سوى الموت، فالحب كما الشعر والغناء، ثمنه موت ايضا، وستواجه خطر الموت بمجرد ان ينشط خيالك ليعثر على فكرة او مقترح او ابتكار. انها ارض المرتدين الموتى بألف سبب.
الاشياء لا تحدث في هذه البلاد، بل تكرر نفسها، لأن "اليقين" لم يتغير، والقادة النابتون من الأرض او النازلون من السماء، يرددون الكلمات الخشبية، منذ اضطر اهل بغداد الى شم البصل ٤٠ يوما، للتخلص من رائحة جثث سدت الأزقة والحواري بعد مواجهة يائسة مع المغول.
كاتبو "الملاحم والفتن" لم يضطروا الى تحديثها وتطويرها، لان الاشياء تتكرر دوما. والقارئ ليس بحاجة الى التشكيك في الروايات القديمة، لان القادة المولعين بفصول الملاحم والفتن، يصرون على تحقيق نبوءاتها. لا القارئ يشك، ولا العراف يتعب، ولا الزعيم. السؤال الوحيد الذي ينهك ما تبقى من حكماء الأمة الان: كيف عرف كاتبو تلك الحكايات، اننا سنظل أغبياء بعد ألف عام على الحكاية ذاتها؟
الشك بـ"الملاحم والفتن"
[post-views]
نشر في: 28 أغسطس, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 2
faris shlash
هم لم يعرفوا باننا سنضل اغبياء لكن القصص لا تقنع سوى الاغبياء كل ما بلامر ان عدد الاغبياء يتصاعد بمرور الزمن مثلا انا لا استوعب كيف اب يقفد ابنه بانفجار وينام على امل ضهور المهدي ببساطه ولا ينتفض ولا ينفجر غضبا بوجه الوجود
آريين آمد
الفرق بيننا وبينهم.. اننا ادمنا الموت حتى بتنا نتفنن في طرق انتاجه، اما هم فابتكروا طرق عديدة للحياة، وحينما يريدون ان يقتلوننا مرغمين فانهم ابتكروا صواريخ تعمل بمبدأ (push and forget about it)... بمعنى انسى فهناك متسع من الوقت لفتح قناني جديدة من الشمبان