تشغل رواية "المقامر" مكانة خاصة في مجمل اعمال فيدور دستويفسكي(1821 ـ 1881)، ليس فقط للظروف الشائكة التي احاطت بالكاتب خلال فترة كتابتها، وانما لكونها ايضا الحاضن لجملة كبيرة من الافكار التي ستنساب في الاعمال التي جاءت بعدها لتتجسد فيها بروح نابضة وقو
تشغل رواية "المقامر" مكانة خاصة في مجمل اعمال فيدور دستويفسكي(1821 ـ 1881)، ليس فقط للظروف الشائكة التي احاطت بالكاتب خلال فترة كتابتها، وانما لكونها ايضا الحاضن لجملة كبيرة من الافكار التي ستنساب في الاعمال التي جاءت بعدها لتتجسد فيها بروح نابضة وقوة، تاخذ العقول وتكون موضع دراسات عميقة في جامعات الشرق والغرب لاسبار غورها ولحد يومنا هذا.
من الناحية الشكلية فان "المقامر" هي الرواية الوحيدة التي كتبها دوستويفسكي وصدرت(1866) بكتاب على حدة من دون ان تُنشر في مجلة ادبية كما هي الحال بالنسبة لرواياته الاخرى. وكانت الرواية مخاض "مقامرة " محضة كادت تؤدي بالاديب الكبير بالافلاس نهائيا وتحول من دون ظهور رواياته الكبرى الاخرى: الجريمة والعقاب والاخوة كارامازف والابله والمراهق.... فالمقامر كانت نتاج اتفاق غير عادل فرضه الناشر ستيلوفسكي على دستويفسكي، يقضي بانه ولقاء حصر اصدار كافة اعماله في داره، قرضه مبلغا ماليا كان بأمس الحاجة له وان ينتهي من كتابة رواية باقل من تسعة اشهر، وبخلافه فانه سيصادر حقوق طبع اعماله لتسع سنوات واسترجاع السلفة. وشرع دستويفسكي بكتابة الرواية قبل شهر من انتهاء المهلة وربح " الجولة" فقط بفضل ظهور " الملكة" انا سنيتكينا(1813ـ1893) التي ستكون زوجته وساعدته على نسخ روايته وتنقيحها في الفترة المطلوبة. فكتب الرواية في غضون 26 يوما تلك الايام التي كانت ايضا منعطف في حياة دستويفسكي الابداعية .وتزوج من سنيتكينا التي ستظل رفيقة دربه وسكرتيرته الخاصة حتى اللحظات الاخيرة من حياته. الرواية بشخوصها وبنيتها وافكارها الرئيسية كانت قد اختمرت في ذهن الكاتب، ويبدو انها كانت بانتظار المخاض، الذي عجلته المقامرة المريرة.
المقامر بالروسية
شخوص رواية المقامر، مثلهم مثل اغلبية شخوص روايات دستويفسكي الاخرى يقفون عند على حافة الهاوية. هاوية ما. الافلاس،او فقدان الصواب او التعرض لمرض نفسي الموت الفراق مع القريب او خسارة كل الممتلكات او الربح او اجتراح مأثرة او اقتراف جريمة. دائما يقفون امام خيار تراجيدي. ومعظم تلك الشخصيات ايضا كما يقول ميخائيل باختين متعددة الاصوات. ففي اللحظة الواحدة تتقلب المشاعر والانفعالات ويدلي الانسان او يفعل ما لايخطط له ولم يفكر به. هذه الاجواء تهب عالم دستويفسكي ديناميكية تربك حتى القارئ وتحدث صدمه لديه. دستويفسكي يُشٌَرِح الروح الانسانية ليقدم لنا الاجزاء المتكونة منها التي تعوقها عن تحقيق حلم المسيح باقامة الجنة على الارض.
وينقسم شخوص رواية المقامر الى معسكرين. الاول يضم الشخصيات الروسية الرئيسية منها الكسي ايفانوفيتش وبولينا الكسندورفنا والجنرال والجدة انتونيدا فاسيليفنا واربع شخصيات ثانوية يكتفي بايراد اسمائها فقط. والمعسكر الاخر يضم شخصيات اوروبية فرنسية مودموزيل بلانشيه ورفيقها دي جريو والانجليزي المستر استلي والالماني البارون بورميلجيليم. ويعكس المعسكران توجهين حضاريين وثفافة مختلفة بل ومتناقضة لايمكن ان تلتقي، ونظرة للامور تختلف حتى حينما يمارسان نفس الفعل. لكل منطلقه فيه. فالمال مثلا بالنسبة للروسي ليس هدفا بحد ذاته بل وسيلة لنيل الحرية والتحكم بالمصير الشخصي، ومحاولة انقاذ الاخر، الغريب عنه وفي نهاية المطاف تحقيق الحلم الاثير لدى الروسي: تخليص العالم. الروسي يعيش بعواطفة منفعلا متأججا جامحا مخترقا للابواب من دون الاكتراث بالمراسيم والبروتوكولات، وهو مضياف كريم، حال ما تظهر لديه نقود سيدعو احدا ما لوليمة غداء، انه قليلا ما يفكر بالغد، وهو مستعد لالقاء نفسه من قمة جبل نزولا عند امر حبيته او ارتكاب الحماقات ليبعث السرور في قلبها، ويقع في حبائل الاوروبي الذي يتقن حبك المكائد، انه يعرف الاورووبي طيب ولكنه احمق.
ويدرج دستويفسكي في المعسكر الاوروبي من شخوص روايته خمس شخصيات تمثل طيف اكثر الامم نفوذا في عصره: الفرنسية والانجليزية والالمانية وهناك اشباح بولونية، او على الاقل الامم التي لها صلات على مستويات مختلفة بالامة الروسية والسلافية عموما. ونتلمس من خلال تفاعل الشخوص وصدامها ان لكل فرع ايضا خصوصيته في ذهنية الانسان الروسي. والاحكام التي تطلق على "الاوروبي" هي في واقع اصداء لميول اجتماعية وسياسية كانت سائدة في روسيا. فالفرنسي مغامر يبحث عن المال باية وسيلة كانت، وهو رغم الرأي الشائع عنه يمتيز فقط باناقة الشكل من دون أن يكون له محتوى ولا مضمون. المال بالنسبة له هدف نهائي ومن اجله يغامر ويخدع ويخون ويلبس الاقنعة ويحتال، لكنه متكبر ينظر للاخرين وخاصة للروس من الاعلى.ويلوح الالماني دقيقا في حياته، انه يضحي بحاضره في سبيل تأمين مستقبل احفاده ويعيش لذلك في ظل قواعد لايحيد عنها تؤدي الى جفاف روحه. ويبدو الانجليزي غامضا وباردا في مشاعره يحقق اهدافه بخفاء دون ان يبوح عنها، ولكنه يظهر الكرم والشهامة عندما يجد ذلك مناسبا.
وعموما فان الاراء والمواقف من الاوروبي والروسي تاتي على لسان شخوص الرواية ليست بالضرورة هي مواقف الكاتب، لكن المعروف عن دستويفسكي انه اصولي روسي اصبح محافظا متدينا، بعد الافراج عنه من سجن الاعمال الشاقة بسبب انتمائه لحلقة بيترشيفسكي الاشتراكية التي نشطت احدى جماعاتها لتحويلها الى منظمة فعل جماهيري لقلب نظام القيصر. وكان يؤمن بخصوصية الروح الروسية وبرساله الروسي لانقاذ العالم لانه مزاج حضارتين. كان يؤمن ان الشعب الروسي تجسيد للرب، فكان يدافع عنه ويدعو لتنقية صفوفه لايصاله بطريق السلام والعمل الى الجنة الموعودة. وكان دائما يبحث عن البديل للحضارة الغربية التي بالغت بميولها المادية.