لم تكن التداعيات التي خلفتها الحرب العالمية الثانية وحدها سببا مباشرا لإعادة تأسيس مفهوم المواطنة على المستويين القانوني و العملي فمهما بدت الحكومات ليبرالية ومدفوعة الى نوع من المثالية المدعاة لكنها تبقى جهازا بيروقراطيا محكوما باشتراطات الواقع التي يتعذر تجاوزها تحت دافع الاخلاقيات المجردة.
تنادت الحكومات الاوربية لمناقشة الموضوع برؤية عملية تحت تأثير متطلبات إعادة الإعمار بعد الدمار الهائل الذي خلفته الحرب ، فقامت بتيسير متطلبات الاقامة و الهجرة لصنفي العمالة و الكفاءات النادرة ، بسبب حاجة هذه الدول لاستدراج رؤوس الاموال و الاستثمارات الضخمة المطلوبة لإعادة البنى الأساسية في أوروبا وصار للجماعات القومية المهاجرة ثقل سكاني ضاغط لا يمكن تجاهله في معادلة الحقوق و الواجبات التي تكفلها الدساتير فأقدمت هذه الدول على اعادة النظر في الفكر القانوني و الدستوري لتعيد تشكيلهما على نحو يتلاءم مع شروط احتكاك الثقافات المتعايشة .
قد يتبادر إلى أذهاننا أن تلك الدول تسعى لمحو السمات القومية من تراث المهاجرين بدعوى تشجيع عمليات الاندماج و تعزيز نموذج التعددية الثقافية التي تحقق لها غايات براغماتية لخدمة مصلحة الدول ذاتها، يمكننا القول هنا أن ذلك محض إجراء مدروس لتخفيف عوامل الاحتكاك والتنافر بين الثقافات السائدة في البلد الواحد والتقريب بين ثقافات البلد والثقافات الوافدة مما يسهل عملية التلاقح المنتج بينها وتعزيز عوامل الاستقرار لتحقيق مزيد من التطور الاقتصادي و لم تكن محاولات تلك الحكومات ناجحة غالبا في مسعى الاندماج فها هي المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تعلن بوضوح مشوب باليأس : إن جهود عقود من عمليات الدمج قد باءت بفشل واضح ، و إن الحاجة تفرض علينا إعادة نظر شاملة في برنامج دعم التعددية الثقافية وهو البرنامج المساند للاندماج و التواصل بين الثقافات.
وأضيف هنا تجربتي الشخصية في دورة الاندماج التي طلب فيها المحاضر الفرنسي إلينا أن ندع في البيت ذاكرتنا وثقافاتنا وعاداتنا لنكون مواطنين قابلين للاندماج في الشارع والعمل بمعنى ان نتخلى عن جانب أساسي من شخصياتنا في اندماجنا القسري وهذا أحد اسباب الفشل الذي أشارت إليه المستشارة ميركل .
نعلم أن أية دولة بمواصفات قومية مرشحة لتستحيل دولة شوفينية قامعة للأقليات أو حتى فاشية في حالات محددة فيصبح لزاما كبح جماح النزعة الشوفينية بأطياف وتلوينات ثقافية من خارج فضاء اللون الثقافي الواحد المهيمن للقومية السائدة ويبرز هناك جانب براغماتي في نموذج التعددية الثقافية يقوم على استغلال الإمكانات البشرية للمكونات الثقافية المحلية أو المهاجرة لكبح انكفائها تحت سطوة الحس القومي الأحادي ، كما أن المشكلات الجدية المهددة للإنسانية لم تعد محلية الطابع ، بل كونية عابرة للحدود و ليس بإمكان أية دولة مواجهة هذه المشكلات منفردة ، لذا كان لزاما تخفيف القيود القومية الدافعة للانكفاء و خلق الفرص الملائمة أمام عولمة ثقافية تخدم الجنس البشري و تناقض تأثير عولمة رأس المال المتوحش و الأسواق المالية المتغولة .
وأخيرا سيبقى الارهاب العالمي غالبا - المشكلة الأخطر التي تواجه المجتمع العالمي و قد أظهرت الدراسات المعمقة أن مشكلة الارهابيين الدوليين هي مشكلة ثقافية متعددة الوجوه في الأساس ، تضخم إحساسا طاغيا بالظلم وإقرارا بالتمييز وعدم إتاحة الفرص أمام المواهب الفردية الثمينة في بيئات منغلقة لا تحترم التعددية الثقافية ولا تتيح لجميع الإثنيات فرصا متكافئة تضمن للأفراد مستقبلا جيدا بل إنها تنتقص من حقوق مواطنتهم وكرامتهم الانسانية
يتبع
المواطنة و الثقافة-3 التعددية الثقافية من الأيديولوجيا المتصلبة إلى البراغماتية الناعمة
[post-views]
نشر في: 31 أغسطس, 2013: 10:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...