إنه واحد من الكتب الجميلة والحزينة جداً في الوقت نفسه الذي صحيح أنه لم يصدر قبل فترة قريبة، لكنه أحد الكتب التي يمكن قراءتها مرات عديدة، أعني الكتاب يحمل عنوان "المواطن ويلز"، وهو عبارة عن حوار طويل أجراه بيتر بوغدانوفيتش مع أورسون ويلز. بالنسبة لعشاق السينما يشكل هذا الحوار الذي يميز بين الإعجاب المؤثر وبين الأستذة الفارغة، علامة فارقة في تاريخ صناعة السينما. الكتاب الذي وقع بين يدي صدفة وأنا أعيد ترتيب كتبي على رفوف المكتبة، أزيل عنها الغبار، حملني على تذكر كتاب آخر قرأناه قبل سنوات طويلة وكان بمثابة إنجيل عشاق السينما في كل مكان في العالم: "السينما برأي هيتشكوك" للمخرج السينمائي الفرنسي فرانسوا تريفو، الذي قرأته بترجمته الألمانية، أثناء أيام الدراسة في جامعة هامبورغ، أتذكر أن أول ما لفت نظري في ذلك الكتاب، هو أن المرء ومع قراءة كل جملة منه، يكاد يسمع المرء صوت هيتشكوك يصدح، الصوت ذاته الذي سمعه فرانسواز تريفو، وبالطريقة ذاتها التي أصغى بها له، أقصد بالعبادة ذاتها التي تظاهر بها هو. لقد مرّ زمن طويل على ذلك، حتى فتر خلال هذا الوقت الحماس غير المشروط بما يخص هيتشكوك، وبالنسبة للفرنسي فرانسواز تريفو يبدو أن الزمن محاه بسرعة، وتقريباً أمحى كل السينما الفرنسية، خاصة بعد وفاة كلود شابرول، أحد أعمدة مخرجي أفلام الجريمة ومعالجتها سينمائياً من جهة ناحيتها السيكولوجية.
بالنسبة لويلز ولهيتشكوك فأن ما يميزهما ببساطة عن الآخرين هو امتلاكهما شخصية العباقرة. السينما التي ولدت في نوادي السينما الرفيعة، تحفظ لهم هذا الميل المؤطر بالقدسية والمبدأ، وبين الأعمال المتقنة بإحكام يبرز أمامنا دائماً في الأقل فيلم "المواطن خان" لويلز وفيلم "بسيكولوجيا" لهيتشكوك. لكن هذه القدسية الثقافية للمخرجين الاثنين تحوي بين طياتها على اختلاف راديكالي بينهما: صحيح أنهما موهبتان عملاقتان في السينما، لكن هيتشكوك كان موهبة منتصرة، على عكس ويلز الذي كان موهبة فاشلة لم يحص النجاح الذي استحقه!
هيتشكوك كان ينتج أفلامه ويحسب التكاليف والأرباح بالمكر نفسه الذي يتنبأ به بدرجة تأثير مشهد يُخرجه على مزاج المشاهد: المخ السحري كان أيضاً محاسباً دقيقاً فيما يخص المشاعر والريبة، وهذا ما قاله لتريفو، بأنه في فيلم "بسيكولوجيا" أدار "مخزون مشاعر الجمهور وكأنه يضرب على مفاتيح البيانو". الحوارات تتقاطع في الكتابين، فأتذكر كلمات أخرى لويلز إذا أسعفتني الذاكرة، قالها بخصوص هيتشكوك: "هناك حساب بارد في عمل هيتشكوك يُبعدني عنه".
أورسون ويلز يشكر إعجاب بيتر بوغدانوفيتش، لكن لا يبدو أنه يعتقد في قرارة نفسه بشرعيته، لأنه عندما أجرى الحوار معه كان رجلاً يعيش شيخوخته التي خنقها وأنهاها فشله في الولايات المتحدة الأميركية. صحيح أن تبجيل بعض المثقفين الأوروبيين له، وكتابة دراسات الدكتوراه عنه وعن الابتكارات التكنيكية التي جلبها للسينما، هي أفعال أوقظت فيه شيئاً من الامتنان لكنها أيضاً لم تستدع عنده الكثير من الاكتراث. ليس عنده رياء الأدعياء ليقول بأنه لم يهمه ذلك (النجاح) الذي لم يحصل عليه، مثل هؤلاء الفنانين الخردة الذين يستنكرون بامتعاض شعبية لم يحصلوا عليها وبأنهم لا يخافون من الوقوع في خطر المعاناة أبداً. أورسون ويلز ملك وبطل نوادي السينما وقصص السينما، هو مثل يهودي مطرود في صحراء أوروبا، أمر حمله على تصوير أحد أفلامه في قرية "جينجون" الإسبانية بمساعدة الناس البسطاء بعيداً عن كواليس السينما الباهظة التكاليف، وللحصول على قوته اضطر مرات عديدة للمشاركة في أفلام مفرطة في القرف ـ كما قال، كما في ظهوره في إعلانات الدعاية في التلفزيون، ويلز قضى حياته يتمنى مصيراً مثل مصير هيتشكوك، نجاح تجاري غير مشكوك به، بأن يكون على علو برج بابل المبني من الجشع في هوليوود، والذي بعد فشلين أو ثلاثة أمام شباك التذاكر أُبعد عن استوديوهات هوليوود مثل مريض ينقل بالعدوى.
يتبع
الفشل المشرف
[post-views]
نشر في: 3 سبتمبر, 2013: 10:01 م