تغدو غرفة الكائن، أي كائن، بحدودها اتسعت أم ضاقت، وبأشيائها مهما تكن، فضاءً حميماً لألفة مفقودة في عالم عدواني خسر روحه وتجهَم بعدما اختطفته ثقافة قاحلة تنزع الى تجريد الحياة من عناصر غناها، وتنوعها، وتشعب مسالكها وسبلها. وحيث تعدم الذات صداقة عالم ل
تغدو غرفة الكائن، أي كائن، بحدودها اتسعت أم ضاقت، وبأشيائها مهما تكن، فضاءً حميماً لألفة مفقودة في عالم عدواني خسر روحه وتجهَم بعدما اختطفته ثقافة قاحلة تنزع الى تجريد الحياة من عناصر غناها، وتنوعها، وتشعب مسالكها وسبلها. وحيث تعدم الذات صداقة عالم لا سبيل الى الثقة به والاطمئنان اليه، عالم عنف يتقن تهديد الحياة كلما تحفزت لإطلاق قواها الحية بحرية، وبإفصاح لذيذ، فإنَ هذه الذات ستلجأ، تحت ضغط حاجتها لعالم يتقبل صداقتها كما هي عليه، إلى تقنية التعويض، وسوف تكون غرفة خاصة بديلاً عن عالم فظ، وكياناً مكانياً لإنشاء ألفة منشودة بحرارة مع أشياء ترعرع بينها الكائن، لكنه دأب على تغافلها، وها هو يعود إليها لينشط صلاته بها، مستقطراً أرواحها في حوار هامس للتفاعل والتأمل والاكتشاف، وصناعة الألفة، وذلك ما افترض أن تجربة الفنان التشكيلي ياسين وامي تحرره وهي تجتهد في تأليف غرفة.
الأشياء في الغرف كيانات حافظة لوجود متعين، وهي تشكل بمجموعها جملة تامة تقوم بتعريف هذا الوجود بمفردات جامدة من خشب ومعدن وجلد وزجاج ملتفة على حدود الجدران.. جملة مبنية للمجهول بحكم جهلنا بفاعليها، وكان على الفنان وامي، لكي يؤلف غرفته، تقويض هذه الجملة، وإنشاء جملة جديدة مبنية للمعلوم يغدو – هو- الفاعل فيها، وتتكون من قطع أثاث مفارقة استبدلت خشبها ومعدنها وجلدها وزجاجها بمادة خفيفة واحدة هي الورق المقوى الذي حصل عليه الفنان من صناديق الكارتون المرذولة الشائعة، وبهذه المادة أعاد اكتشاف أشياء غرفته وهي لا تعدو سريرا ومنضدة بمصباح، وأريكة، وخزانة، وحقيبة، وكرسياً، ومغسلة، ومكتبة، وساعة جدارية، وإطارات صور.
صنع وامي قطع الأثاث هذه بمهارة حرفي متمرس، وبدرجة فائقة من الإتقان والأناقة والدقة يغبطه المرء عليها، وحافظ على هيئاتها الأصلية بحيث جاءت مطابقة لها تماماً كما لو أنها خرجت تواً من ورش أو مصانع محترفة بالرغم من كونها مصنوعة من الورق المقوى وبمجرد يديْن لفنان يتمتع بهوس لا يُفل في إخراج قطعة أثاث من كارتون محكمة الشكل والحجم والصورة كأصلها الذي خرجت به من ورشتها أو مصنعها. وفي غرفتها تبدت قطع أثاث وامي جديدة ونظيفة تماماً كما لو أن من أقام فيها فنام على السرير حالماً، أو معانياً من الأرق، أو جلس على الكرسي متصفحا كتاباً، أو مضطجعاً على الأريكة متأملاً، أو غاسلاً وجهه ويديه في المغسلة، كما لو أن هذا المقيم يتمتع بروح معملية لا تُقارع، وبقدرة مدهشة على استخدام الأشياء استخداما أمثل لا تتسخ معه هذه الأشياء، أو تتصدع أجزاء فيها، أو ينطبع على سطوحها أيما أثر جراء استخدامها. وحتى الزمن كأنه قرر ألا يدخل هذه الغرفة ليؤثر في رونقها وأعمار أشيائها. وقد أوقعت هذه المطابقة الحرفية بين قطع الأثاث التي صنعها فناننا من الكارتون وصورها الأصلية بخامتها الأولى، كثيرون في حيرة، فظن بعضهم، وقد جانبه الصواب، بأن هذا الفنان لم يصنع شيئا غير أن يستبدل مادة بأخرى لشيء مصنوع من قبل صانعه. ومادام الأمر كذلك فإن ما أنجزه الفنان بهذا المستوى من الإنجاز لقطع أثاثه لا يرقى بها إلى مستوى أعمال فنية طالما تجردت من عملية إعادة إنتاج وخلق وتشكيل فني لما هي عليه، بل طالما تخلت الذات الخالقة عن غايتها من الخلق في أن تكون مضافاً إلى ما تخلق.
سبق لهيدغر في كتابه (أصل العمل الفني) أن أطلق تسمية (الأدوات) على ما يخرج من الورش والمصانع من أشياء يستخدمها الإنسان في منافع عملية، وفي معرض تعليقه على لوحة الفنان فان كوخ (حذاء فلاحة) وصف هيدغر الحذاء قبل دخوله اللوحة، بأنه، كأي شيء آخر مصنوع، (نصف عمل فني)؛ إذ بالرغم من تمتعه بشكل خاص، ولون، وملمس، كأي أثر فني، إلا أن جانبه الوظيفي، يطيح بتمام تحوله الى عمل فني مكتمل، لذا هو (نصف عمل فني). يضاف إلى ما ذكره هيدغر حقيقة أن العمل الفني الخالص هو تجسيد لفعل إرادي لذات فنية خالقة بهدف إنتاج أثر جمالي مقصود.
هذا الفعل الإرادي الذي يتوخى بعث استجابة جمالية ماثلٌ بقوة، كما أرى، في أعمال ياسين وامي، ومتحقق برؤية متأملة لهذا الفنان، وهذه الرؤية تستند إلى هدف أسمى يتوخى تعزيز صلاتنا الحية بكل ما في وجودنا من أشياء وظاهرات، مهما تكن، بالنظر إليها من خلال منظار جمالي. وبوسعي القول إن قطع الأثاث في الغرفة التي قام بتأليفها تجتهد في تركيز رؤيتنا على الجمالي في ما هو وظيفي، وهي تنجز هذا الأمر بطريقتين:
أولاهما: تفك ارتباط الوظيفي من الأشياء والأدوات بخاصيته الوظيفية النافعة عملياً، وتجرده من هذه الخاصية بإعادة إنتاجه بخامة أخرى لا يمكن معها أن تعمل هذه الوظيفة مطلقاً، فيخلص الشيء أو الأداة للتأمل الجمالي المجرد.
والأخرى: تقوم على تقديم الأشياء والأدوات المنتجة بخامة غير خامتها مجردة من أي أثر من آثار استخدام مفترض لإنسان ما، ومنقاة من فايروس الزمن، لتعرى بشكلها الخالص، ولتمنحنا الفرصة في تأملها جمالياً نقية منزهة عن احتمال التصاقها بمعنى.
وأرى أن هاتين الطريقتيْن أنقذتا منتجات وامي من عبث التأويل وجعلتاها تقيم في صمت ثلجي سوف تكون معه العين أقدر على رؤية هذه المنتجات رؤية صافية نقية متحررة من هذر التأويلات.
إن الاستثارة الجمالية التي نحصل عليها في غرفة وامي بقطع أثاثها تنبعث مما هو أقرب إلى (حياة ساكنة=stil life) الموضوع الذي لايزال الرسامون يخفون إليه بباليتات ألوانهم كلما رأوا الأشياء والأدوات بأشكالها الجمالية الخالصة.
ولا شك عندي في أن ياسين وامي، وقد أنتج قطع أثاثه بمادة هشة وبهذا المستوى الرفيع من الاتقان الاحترافي، إنما يرسل تحية لأحد أقانيم الإنتاج بعمومه، وأعني به تقديم المنتج بأقصى درجات المهارة المحترفة، سواء أكان هذا المنتج عملاً فنياً أم نصف عمل فني.
هامش: عرضت أعمال الفنان وامي في غرفة داخل الجناح العراقي المشارك في بينالي فينيسيا لهذا العالم، ومعها عدد من أعمالي.
جميع التعليقات 1
mohamed asaad
تحية من وقوف اقدمها لانسان يبذل مايملك من طاقات معنوية ومادية من صبر وجهد وبرغم كل العقبات الطارئة والمخطط لها من قبل اناس اقل ما يمكن ان يقال عنهم انهم أوجدوا في مكان غير مكانهم. واتمنى صادقا ان تجد ضالتك في مكان وزمان تستطيع من خلالهما ان تقدم وتعرض الا