تأسس العراق الحديث وفق مقاسات صناعة بريطانية كولونيالية تقاسمت تركة الدولة العثمانية و ليس في ذلك ضير فلطالما تشكلت دول وفق مقاييس قوى كولونيالية و ترافق تأسيس العراق الحديث مع بروز معالم الدولة الحديثة : حكومة و جيش و برلمان و دستور كتب عام 1925 علي يد المحامي الإنكليزي ( بونهام كارتر ) و هو أفضل في كثير من فصوله من دستور مليء بالثغرات كتب أو أتى جاهزا عام 2005 !
وقد أشارت تلك المقومات إلى وجود إمكانية لنهضة علمية وزراعية وتعليمية وعمرانية مصحوبة بمعالم ليبرالية واضحة وإن كانت أشبه بجنين خديج ولد قبل أوانه ولاحت مؤشرات قيام دولة على قاعدة (الامة – الدولة ) التي شاعت في اوربا القرن التاسع عشر غير أن صعود النزعة القومية المدعمة بحس ديني بدائي وطائفي أقصت وبددت الخواص الثقافية الجامعة للعراقيين وعملت على وأدها في عمل تخريبي مدروس أشاع حالة من التغريب و الانفصام المرضي بينهم فشاعت العبثية و اللاجدوى وانعدام الحس بالمسؤولية مما أدى لظهور صراعات طائفية وعرقية هي في حقيقتها صراعات ذات جذر ثقافي ترافقت مع نزعة إقصائية عنيفة ثم رسختها حقبة العسكر بكل حمولتها الثقيلة الوطأة لتطيح بالبناء الليبرالي الهش في الدولة العراقية ولتدخل البلاد في عتمة الصراعات الأعنف فعانى العراقيون ضغوطا وانتهاكات لينتهوا كائنات فصامية ذات نزوع مرضي يتخذ واحدا من شكلين : عدواني صارخ في عنفه و قسوته أو انكفائي يجنح الى الخنوع و التبلد واللامبالاة و في الحالتين تقطعت الروابط الحية التي كانت تشد سكان هذه الارض الى جذورهم الحية ونتج عن هذا الفعل التدميري أن استحالت المواطنة محض صفة شكلية خائبة و غير فاعلة في المنظومة القيمية و الأخلاقية للفرد العراقي بعد ان ضاعت إمكانية الارتقاء بها من المستوى الحقوقي و القانوني الى مرتبة القيمة الأخلاقية الأعلى مقاما والأقوى تأثيرا على المواطنين مع انعدام إحساسهم بالمسؤولية.
روى صديق لي من المقربين أن أباه الميكانيكي الذي كان يعمل في مصفى الدورة كان قد أوفد في سبعينات القرن العشرين إلى ألمانيا في دورة لاكتساب الخبرات الحديثة و ذات يوم ارتاد اعضاء الوفد مقهى وجلسوا يتفرجون على مشاهد المدينة النابضة بالصخب والحياة و إذا بفتاة فارعة تمرق أمامهم بسرعة وبعد ان سارت بضع خطوات توقفت وعادت إذ لفت نظرها وجود ملصق ورقي على حائط مبنى قريب من المقهى تدلت احدى زواياه فانكفأ الملصق على الجدار ، أخرجت الفتاة علكة من فمها كانت تمضغها و وضعتها على زاوية الصورة ثم أعادت لصقها على الحائط وبعد أن تيقنت من استواء الصورة في حافتها العلوية عاودت سيرها مغتبطة فعلق أحد اعضاء الوفد العراقي على المشهد بحسرة بالغة : هل يمكن أن يحدث هذا في العراق ؟ ولدينا امثلة كثيرة كهذا السلوك المسؤول، اخبرتني صديقة عراقية تقيم في نيويورك أن جارتها الأمريكية قدمت شكوى بحقها لأن إحدى حنفيات شقة صديقتنا تسرّب قطرات ماء طوال الليل والنهار ولم تكن تبالي بالأمر و تؤجل تصليحها كعادتنا في اللامبالاة بالتفاصيل الصغيرة وإهمالها – فأرغمتها الشرطة على دفع غرامة كبيرة لأنها أهدرت المال العام المتمثل في الماء المتسرب مع إلزامها بتصليح الحنفية ، أما في مجتمعاتنا اللامبالية فإننا نفتقد أخلاقيات المواطنة والإحساس بالمسؤولية إزاء خدمات الحياة المدنية والمال العام فلا تزال روح البدوي الغازي تتحكم في لاوعي الكثيرين.
المواطنة و الأخلاقيات المواطنة قيمة ثقافية و أخلاقية
[post-views]
نشر في: 14 سبتمبر, 2013: 10:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
نيران العبيدي
علـم ودستور ومجلس أمة ...................... كل عن المعـنى الصحيح مُحرّفُ أسماءُ ليس لنا سوى ألفاظُها ...................... أمّـا معانيهـا فليست تُعرفُ من يقرأ الدستـورَ يعلم أنه ....................... وفقـاً لصكّ الاحتلال مصنّفُ من ينظرُ العلمَ المرفرف