بما يشبه الفرض، أكتب كل سنة في الخريف شيئا عن النخيل. ليس مجرد حنين لمنظر مهيب كنت أحدق بتفاصيله بذهول الطفل كلما بدأت يومي بفتح النافذة ورؤية الحقول التي تمتد تحت نافذتنا،. ولا لمحض أن "إخوان الصفا" في موسوعتهم الشهيرة "الرسائل"، اعتبروها "إنسانا"، وأن صديقا كان يتفاخر أمامي بأن في وسعه رؤية آثار أقدام جده على الجذع، ويجعلني أتفحص ساق الشجرة باحثا عن آثار أقدام الآلهة العراقية التي كتبت الأساطير وهي تتحسس رائحة السعف والعذوق. ومثل كثيرين أحزن كل خريف، لأن وسائل إعلام دول قريبة وبعيدة، تبدأ احتفاء هائلا بموسم قص التمر، وشاشة ام بي سي تعرض إعلانا عن مزاد التمور في الأحساء وجدة، يظهر كيف تصطف السيارات في طوابير، ويدور عليها رجل متحمس، يصرخ بأنواع الثمر وأسعاره، داخل لوحة من الفخر الوطني. العراقي مشاهد مثالي لهذا الإعلان، فهو يسترجع صورة مجده الآفل كأكبر منتج للتمور، بات ينشغل عن إحصاء النخيل، بحساب كميات الموت وحماقات الساسة، منذ ٣٠ عاما.
النخلة "أقرب إلى الإنسان" كما سجل إخوان الصفا، حين تحدثوا عن سلّم الكائنات الحية بكلام يشبه ما سيقوله دارون ولامارك لاحقا. فهي "النبات الوحيد الذي يموت حين تقطع رأسه، كالإنسان". والمزارعون الذين لم يقرأوا إخوان الصفا، يمتلكون تصورا مشابها، فيرددون نصيحة أجدادهم: لدى النخلة دلال سيدة حسناء. تعمل سنة وتستريح أخرى. قد تمنحك ٢٠ عذقا هذا الموسم، بعد ان لم تحمل في سابقه سوى ٨.
الجذع يحفظ آثار أقدام العراقيين منذ الأزل، وهم يصعدون نحو "العذوق والشراميخ" متفننين برعاية "الطلع والحبابوك والكمري" ثم "الخلال والرطب والتمر". ومن بين السعف، انطلق العراقيون نحو مصائر شتى فنقشوا الحروف في سومر وصنعوا العجلة في بابل والمكتبات في آشور، ثم أضافوا لقلب حضارة الإسلام بصمة تنوع لا تنسى. لم يكن مجرد جذع بقدر ما كان "ممرا للآلهة" التي خلقت العالم القديم، ثم تسلقته وكتبت الأساطير "في العلى".
لقد فقد جني التمور وقصها كثيرا من زهوه السابق، لأن الروح كسيرة ومليئة بفقد مروع لآلاف الحقول، ورحيل آلاف من برعوا في رعايتها وحمايتها. كانوا يغنون بلا توقف وهم يتسلقونها بفرح، أما هذه الأيام فنشاهد "الصاعود" صامتا وهو معلق بين الأرض والسماء، وفي أُذنه سماعة مربوطة بهاتف ذكي يبث "فوق النخل"، أغنية، أو نشيدا دينيا حزينا، أخبارا عن تناحر الطوائف، وربما صوت سياسي احمق يدعو للثأر الخائب، وشيئا لا يحب النخيل سماعه.
وفضلا عن صمته فإن آلة تسلق الجذع، "التبلية" أو"الفروند"، لم تعد أنيقة كما في السابق. هي اليوم مجرد سلك معدني بلا روح، يشد قطعة قماش متهرئة. أما في الماضي فكان "الفروند" تحفة فنية ورأيته يصنع في أبي الخصيب من ألياف جوز الهند و"الكمبار" والحبال المستخدمة في السفن، بعروتين من الخشب معقودتين بإحكام.
سنظل نشاهد إعلانات تلفزيونية من إيران والخليج، ونتذكر بحزن كيف أتيح لآبائنا ان ينصتوا للهجات الطيور الملونة، ويتفقدوا مسارات الأنهار، ويحسبوا أنواع النبات البري وسط غابات النخيل، يوم كانت تحيط بمدننا تلك الحقول التي سحرت مؤلفي الأساطير الدينية والشعراء وناسخي مباحث المعتزلة والنحاة ومبدعي علم البصريات والخلفاء والعساكر والغزاة. أي حظ سيئ جاء بنا في توقيتات لا تسمح إلا بتجربة كآبة حواجز الكونكريت والانحباس داخل سيطرات بلا نهاية، وسط موت في الطرقات بلا سبب وتكيف عبثي مع مدن خربة وتلال من القمامة، وانتماء لحرب بلا جدوى.
إنني أكتب فرض الخريف ثانية، وأعيد ما سجلته العام الفائت، بلغة الاعتذار. ان النخلة وآثار أقدام سلالاتنا العراقية على جذعها، خارطة لما تبقى من عظمة هذه الأرض. وهي إذ كانت إنسانا عند إخوان الصفا، فهي أيضا "آخر العراقيين العظماء".
"فرض" أكتبه في الخريف
[post-views]
نشر في: 14 سبتمبر, 2013: 10:01 م