عندما يقول المواطن السوري أنا ذاهب إلى الشام فهو يعني دمشق.
(دمشق الحرائق) عنوان المجموعة القصصية لزكريا تامر الذي حاول فيها نقض اليأس فأضرم النار في الكلام.. واندلعت الحرائق في الشام.
لكن للراحل ممدوح عدوان عاطفة خاصة إزاء العراقيين، فلا سهرة في بيته، أو خارجه، إلا فيها توقيع عراقي، وهناك الرائعة إلهام، أم زياد، زوجة ممدوح التي لا تتعب من المحبة التي تشيعها في شقتهما، بالمزة، وهي تستقبلنا في أي وقت.. كان زياد طفلاً.
رفع ممدوح نخباً: بصحة الجواهري!
قلت: وما المناسبة؟
قال: قصيدته هي المناسبة، شو مالك يا زلمه؟
شربنا نخب الجواهري لكنني لم أتركه يمر: أنو منن، ممدوح؟
أجاب وهو يسعل: قصيدته الأخيرة التي لحنوها وغنوها (دمشق جبهة المجد).
استغربت ثم علقت: لكنها قصيدة مديح في حافظ الأسد.
رد ممدوح وهو يشعل سيجارته: ومالو؟ لست معنياً بالممدوح، القصيدة أعجبتني.. صنعة معلم! لا تزعلوا مني: لفرط جمالها أوشكت أن أحب حتى حافظ الأسد (ضحك الجميع).
تظهر ميادة الحناوي تغني القصيدة على شاشة التلفزيون.
عندما تبلغ قولها: يا حافظ العهد... يفيق أحدهم ليكمل بدلا من (يا طلّاع ألويةٍ) بـ (هل مرت بك الإبلُ) ليصبح البيت: يا حافظ العهد/ هل مرت بك الإبل (يتواصل الضحك).
نخرج من بيت ممدوح ليذهب كل إلى مقصده: بيت أو بار أو متاهة.
تاكسي!
يقلنا السائق إلى الصالحية، قلب دمشق النابض بالجمال، يتحرش بنا السائق ويسألنا سؤالاً إسلامياً: أشم رائحة خمر يا أخوان! فأقاطعه: نحن سكارى لكننا سندفع أجرك وزيادة. يهدأ السائق.
لكنني لم أهدأ، سألته: كيف عرفت رائحة الخمر؟
يسكت.
أصل بيتي في الصالحية. أفتح الباب وأدخل، لا دخول بلا باب ولا باب بلا مفتاح. إيمان نائمة. أفاجأ بجهاز هاتف في بيتي لأول مرة في حياتي. بفضل إيمان وعصاميتها. تعصف بي رغبة عارمة لأهاتف أحداً. لا أحد من أصدقائي لديه هاتف. أعثر على رقم هاتف بندر عبدالحميد فاهاتفه الساعة حوالى الثانية فجراً. بندر قبل أن يرتد ويتزوج.
يرد بندر: ألوووووووو!
أنا عواد.
شو بدك؟
شيء في صدري (*)، وأنت؟
يرد سريع البديهة: لا أنام (*).
نضحك معاً وأغلق الهاتف: تصبح على وطن كما يقول دريد لحام.
****
(الصالحية ضحى يوم جمعة)
أصادف ممدوح عدوان قرب مجلس الشعب. يأخذني من ذراعي: أنا عازمك على فول في (بوز الجدي). نذهب إلى سوق (الشعلان) حيث (بوز الجدي) ندخل. يأتي صبي المطعم بالفول والمخلل والليمون. يسأله ممدوح: وين البصل؟ يجيب الصبي: ما في بصل، لسه ما وصل. يغضب ممدوح: سمعت في حياتك بفول بلا بصل؟
نخرج لنذهب إلى مطعم (شاميات) حيث الفول هناك مع البصل.
يقترح ممدوح: نلتقي في (اللاتيرنا = القنديل) بعد الظهر.
أنا في البيت. طرقة على الباب. أفتح: يدخل سعدالله ونوس بنصف ابتسامة وشال رمادي يلف رقبته. تعد إيمان القهوة. سعدالله لا يضحك. بدأ يرتشف فنجانه بكآبة مؤدلجة أو بآيديولوجيا كئيبة.
سيأتي غالب هلسا إلى هنا. يقول سعدالله.
وبعدين؟ تسأل إيمان.
لا أدري. نزور أصدقاء أو نشاهد فيلم فيديو. أقترح عليكم شريط (أسد في الشتاء) بطولة كاترين هيبورن.
أعلق بخبث: أسد أم الأسد معرفاً؟
سعدالله لا يضحك. يبتسم ربع ابتسامة كأنه يخشى الضحك.
أسأله: هل تتذكر أول لقاء لنا ببيروت أيام الحرب الأهلية؟
يجيب: لا. أشحذ ذاكرته: في بيت أدونيس. يكرر: لا أتذكر.
كنا ثلاثة شعراء عراقيين: جليل حيدر وهاشم شفيق وأنا.
يستدرك: تذكرت.. لكنني لم أقرأ لك، في حينها، حرفاً واحداً.
أعلق: لم أزل حتى الآن لم أكتب حرفاً واحداً.
وأختم: سلاماً من صبا بردى أرقُّ.
(*) الروايتان لإحسان عبد القدوس
كلام في الشام وأهلها الكرام
[post-views]
نشر في: 16 سبتمبر, 2013: 10:01 م