إن الاعتراض على القضاء ليس يسيرا على اللسان ولا هينا على البنان. ومن المؤكد ان هيئاتنا القضائية تزخر برجال أفنوا أحلى سنواتهم في دراسة القانون وتاريخ التشريع وفلسفته. وأن الاعتراض على الأفاضل مهمة عسيرة، لأن "لحم العلماء مر أو مسموم". غير ان نخبة الأفاضل هذه تدخل اليوم في مواجهة مع رأي الأغلبية النيابية وشرائح الجمهور الأوسع، وتعاود نقض اهم القوانين التي صاغتها اعلى هيئة تشريع منتخبة. دون ان تجيب على سؤال الديمقراطية، والقدر الأسود الذي سنواجهه حين يسلب حق التشريع من البرلمان. وليس هذا وحسب، بل ان الصورة الواضحة لكل ما يجري هو انحياز الحكم القضائي لفريق السلطان، ضد أغلبية نيابية تحاول تخفيف السوء عبر حزمة إصلاحات تشريعية وافق عليها السلطان عام ٢٠١٠ في أربيل، وسارع إلى نقضها في اكثر ليالي بغداد حلكة وظلاما.
التحالف بين المحكمة الاتحادية والفريق السياسي والعسكري لنوري المالكي، بهت وتراجع بضعة شهور، وها هو يعود بقوة أثناء التحضير للانتخابات العامة، اذ لم يتوقف الأمر عند نقض "تحديد الولايات" إرضاء لرغبة السلطان وحلمه بولاية خائبة، بل نسمع ان النقض سيشمل القانون الآخر الخاص بمجلس القضاء والذي تحمس له انصار التعدد السياسي ومعارضو التفرد الارتجالي، لأنه يفصل بين منصبي رئيس مجلس القضاء ورئاسة المحكمة الاتحادية، ويجعل من الصعب على الحاكم فرض نفوذه عليهما في الوقت نفسه، وفي هذا الشأن الخطير.
ولقد بقي قانون ثالث ومنصب حساس، قد يسيل لعاب فريق السلطة على درب نقضهما. الكتل التي تمثل كل الطوائف والأغلبية البرلمانية، نجحت في حرمان المالكي الى حد كبير، من تسييس الاجتثاث وسلب المئات من الخصوم، حق الترشح في الاقتراع القادم. فأقالوا رجلا أدار الهيئة بالوكالة وأعادوا رئيسها السابق المتوافق بشأنه مع قواعد تمنع التسييس. ان المالكي يتحرق شوقا لإعادة الاستيلاء على ملف المساءلة، وسيصيبه الجنون لو خاض الاقتراع بلا منجز، كحاكم معزول، وعاجز عن اجتثاث شركائه، تلاحقه الاحتجاجات من الفاو إلى تلعفر. ولا ادري حجم الضغوط التي مارسها على الجهات القضائية كي تجد له مدخلا لنقض قرار الأغلبية البرلمانية هذا.
أما القانون الآخر الذي اكد المالكي انه لا يريد نقضه، ثم عاد وأعلن غضبه الشديد بشأنه، فهو توسيع صلاحيات الحكومات المحلية، والذي سيضمن لأول مرة تطبيق مبدأ اللامركزية الذي أقره الدستور، وبقي مجمدا سنوات طويلة. وقد يبادر فريق السلطة الى نقضه في أي لحظة، طالما اشتعلت أضواء "حفلة النقض الجماعي" هذه.
ان القضاء الذي نعتز ولا شك بفضلائه وعلمائه، يعيش اليوم لحظة اختبار عسير، وهو يحول دون مرور قوانين ذات طابع إصلاحي لما فسد من التدبير، ولنهج وضعنا مجددا على سراط اعوج للاحتراب الداخلي. ولحظة الاختبار هذه وبقدر ما تمتحن مسؤولية القضاة وحسن تدبيرهم، فإنها تطرح أمامنا نخبة وجمهورا وصالونات ثقافية وسياسية، سؤالا كبيرا يتعلق بجملة من الإجراءات داخل "عقدنا الاجتماعي" الذي سيفشل وينتكس طالما اخفق في حماية القرارات القضائية وحفظ حيادها في عملية التأويل والتفسير.
إننا نحمي البرلمان بالتعددية السياسية، ونريد حماية الحكومة بأعلى مستويات الرقابة في البرلمان. ولكن السبيل الذي يضمن حماية السلطة الثالثة ومؤسسة القضاء، لم يحظ بعد بما يستحق من اهتمام، لدى الجمهور والفعاليات الاحتجاجية وسجالاتنا الثقافية والأكاديمية.
الطريق إلى مراجعة عميقة بعد اقتراع ٢٠١٤، لا يمكن قطعه بنجاح دون قول كلمة كبيرة في "بلاط" الفاضل مدحت المحمود. وكما ان لحم العلماء الأفاضل مسموم، فإن أوجاع الشعب ومصائره وفرص الإنقاذ التي تتبدد، هي لحم "أشد سما"، و"حوبة" ما بعدها حوبة.
القضاء و"اللحم المسموم"
[post-views]
نشر في: 16 سبتمبر, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 1
المدقق
هههههههه كم طبلت وزمجرت وغنيت فرحا حين تم اقرار تلك القوانين الفاشلة والمشبوهة والتي لا اساس دستوري لها ورغم ذلك تم اقرارها في البرلمان المشؤوم ظنا ممن اقرها بانه قد حقق نصرا مبينا على السيد المالكي .. وتلقفتها انت واشباهك بفرحة غامرة وكتبت مقالات ومقالات