كيف يمكن أن تدفع عن نفسك تهمة الانغماس بالحلم الأخلاقي، وأنت تكتب في السياسة؟ كيف تبدو مقنعا ومدركا لممكنات قابلة للتنفيذ؟ لماذا يبدو واقعيا مثلا، من يستسلم لبقاء المالكي في السلطة، ولكن سيبدو مثاليا من يحاول وصف ممكنات لخطط أخرى، أدنى كلفة وأقل ضياعا؟ لماذا اصبح مشروع "التعايش" والمراجعة، مثاليا حالماً، بينما صارت سياسة التهجير والذبح المتبادل "واقعية"؟ لماذا سأكون مع الحقيقة لو قلت إننا سنبقى تحت تأثير رهيب من الجار العربي أو الأعجمي، ولكن سأبدو مجرد شخص يهذي حين أتحدث عن إمكانية ان يكون الصدر والنجيفي والحكيم وبارزاني، اكثر عزما وأشد تماسكا وفي وسعهم التفاوض استثمارا لكثير من تطورات الداخل والخارج؟
الكتابة في السياسة ليست درسا في الأخلاق، لأن الأخيرة ليس لديها دور كبير في سوق الصراعات الإنسانية. لكن من يحدق في رقعة الشطرنج أمامه مهمتان أساسيتان، الأولى إعداد وصف غير زائف لموازين القوى، والثانية اقتراح خطوات تقوم بتنبيه اللاعبين إلى قواعد "جني الأرباح" ومعايير "تخفيف الخسارات"، لأن هذه العملية ولكي تكون واقعية، عليها ان تتخلص من الحماس المرتجل، والروح "الانتحارية" ومنطق "القمار" إلى أقصى حد، بالضبط كما تتخلى عن التردد الطويل والحذر المبالغ فيه.
وصف القواعد المعقولة في عمليات الشد والجذب، ليس نزوعا أخلاقيا مثاليا، في صراع كثيرا ما يتخلى عن الأخلاق "اضطرارا" لضرورات قاسية كما يقولون. لكن الكتابة السياسية وهي في جانب منها جنس من نصوص النقد والتأويل، تتولى تقييم النسخة القائمة من تعريف "المصالح" وفضح مفارقاتها، وتلك الثغرات المغوية التي تضمنها التعريف المغلوط، ودفعت اللاعبين إلى ارتكاب أخطاء جسيمة.
وحين تقترح الكتابة السياسية تعديلا في تعريف المصالح، فإنها تقترح أيضا تقييد عمليات جني الأرباح وتخفيف الخسائر، بجملة قواعد، لا بدافع أخلاقي كي لا نثير سخرية الميكافيليين في سوق التحليل، ولكن التعديل والقواعد التي تبدو غريبة ونشازا على سياستنا البدائية، ستحاول التبشير بقوة نهج الاعتدال وفاعليته، بعد شوط طويل من الخسارة الدموية والنفعية التي جاء بها نهج التهور والتشدد و"اللاتراجع" الذي يعتقد أصحابه انهم واقعيون، ساخرين من أي حديث عن ممكنات التسوية الدقيقة التي تهدف لتعايش الفرقاء.
ان في الوسطية والاعتدال قوة توازي مرونتهما. كما ان في التشدد والراديكالية ضعفا وهزالا يوازي الشكل الصارم "البطولي" لمواقفها. وإدراك هذا ليس خروجا عن الواقعية، بل إقامة صلة معقولة بقواعد اللعب.
المتطرف الذي يراهن على قوة الموت البدائي، يخطئ في تقدير قوته فيتورط في ضياع لكامل حقوقه. صلابة المتطرف كانت تنطوي على مثالية رهيبة وضعف، لحظة كان يحلم ان قوة القتل ستجلسه على عرش البطولة والمصلحة الكبرى وإمكانية إخضاع الجميع. أما خطط التسوية المصنوعة بتدبير والتي لم نجربها بعد، فهي بكل مرونتها، تحمل قوة وعزما ومسؤولية صارمة، وهي أمر قابل للتحقق ومن المعقول ان يحظى بدعم كبير، لأنه يوفر الحد الأدنى من مصالح الأقوياء. ولكننا اذ لم نألف هذا ولم نتدرب عليه، فإننا نعتبره مثاليا حالماً غير عملي.
سيظل مثاليا وحالماً من يريد شن الحرب على الجميع ويحسب ان النصر حليفه، وسيقود قومه إلى إقامة طويلة في المقابر. ولا احد يطالب أحدا بالكف عن العناد تمهيدا للاستسلام، لكن تجريب التسويات والكف عن الحماقة، هو الحقيقة الوحيدة التي نحتاجها اليوم، لتمنحنا "سلام الأبطال" وتنازلات تليق بأعباء المسؤولية الكبيرة.
استعادة الحق لن تكون بالشتم الطائفي والإيغال في الاتهام ووعيد الإبادة والذبح أو الاعتقال. بل هذا سبيل يزيد حاجتنا لخارج يعبث بالداخل وغير عابئ بنا. لكن اكثر ما يغيظ "الأعداء" المعششين في خيالي وخيالك، هو التنازلات الدقيقة والحكيمة، التي في وسعها ان تمنح أسرتي وأسرتك، فرصة التقاط الأنفاس والحصول على هدوء يسمح بالبناء والاكتفاء. ان التنازل لتصميم صفقة الداخل هو الطريق لمنع "أجندة الخارج"، وهذا سبيل الواقعية الذي يرسم مسؤوليتنا خلال تأويل السياسة ووصف رقعة الشطرنج ومصيرها.
"الواقعي" في السياسة
[post-views]
نشر في: 17 سبتمبر, 2013: 10:01 م