عاشت الفنانة الموسيقية المصرية رتيبة الحفني أكثـر من عمرها الذي ناهز 82 عاما وانطوت صفحته الأخيرة قبل ايام، ذلك انها سجلت من الإنجاز الفني والثقافي وبما يرفع الموسيقى الى مصاف الابداع المؤثر والحاضر بقوة في المدار الاجتماعي، ما هو كثير وبارز وفريد.رت
عاشت الفنانة الموسيقية المصرية رتيبة الحفني أكثـر من عمرها الذي ناهز 82 عاما وانطوت صفحته الأخيرة قبل ايام، ذلك انها سجلت من الإنجاز الفني والثقافي وبما يرفع الموسيقى الى مصاف الابداع المؤثر والحاضر بقوة في المدار الاجتماعي، ما هو كثير وبارز وفريد.رتيبة، هي ابنة مربي الاجيال الموسيقية العربية المعلم والباحث والفنان، محمود أحمد الحفني، ولدت في العام 1931 وتعلمت العزف على آلة البيانو وهي في سن الخامسة، لتواصل دراستها في برلين وميونخ، ومن هنا عرفت لاحقا بانها اول مغنية اوبرا عربية، عبر ما درسته من فصول مؤثرة في هذا الفن الموسيقي الضارب في أعماق الثقافة الغربية.
وفضلا عن " اول مغنية اوبرا عربية"، ثمة صفات هي علامات انجاز الراحلة في محطات حياتها، فهي تولت عمادة "معهد الموسيقى العربية"، كما كانت أول من أدار ''دار الأوبرا المصرية'' بعد اعادة افتتاحها العام 1988، وصاحبة اشهر البرامج الموسيقية في التلفزيون المصري، والباحثة والمؤلفة، والمشرفة على العديد من البحوث والدراسات العليا في الفنون الموسيقية، إلى جانب رئاستها لـ"مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية" السنوي والذي كان ينتظم في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام، ابتداء من العام 1991.
1
هنا لسنا بصدد الإشارة عبر البحث والتعليق الى عموم سيرة الراحلة الحفني ومسارات انجازها الفني، بل الى صلتها بالموسيقى العراقية، وتحديدا مما خبره كاتب السطور وعرفه جيدا، أكان عبر حضوره المتواصل الى "مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية"، او عمله محررا وناقدا في مجلة "الموسيقى العربية" الصادرة عن "المجمع العربي للموسيقى" التابع لجامعة الدول العربية، والذي كانت تشغل الحفني موقع رئاسته ( 1997 حتى وفاتها قبل ايام).
ففي العام 1961 عادت الحفني من المانيا وهي متحصلة على أعلى مؤهل في غناء الأوبرا من المدرسة العليا للموسيقى بميونخ، ودبلوم تخصص في قيادة الكورال وتعليم غناء الأوبرا من معهد كراينر للغناء بمدينة اوجسبورج، كما تابعت الدراسات العليا في الفن الشعبي من جامعة هومبولد في برلين. لدى عودتها إلى القاهرة، قامت بالغناء في أوبريت ''الأرملة الطروب'' أمام الفنان العراقي متعدد المواهب، الراحل كنعان وصفي.
صحيح انها قد تكون ليست الحكاية الموسيقية العراقية الاولى بالنسبة للحفني، لكنها تشكل اول صلة عملية وواقعية مع موسيقي عراقي، حتى وإن كان مغتربا ومقيما في القاهرة حينها مثل كنعان وصفي.
2
وبحسب ما لمسته وعشته لسنوات، من خلال حضوري المنتظم ومشاركتي مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة، فان مقرر وأمين المهرجان د رتيبة الحفني، كانت قد حرصت ومنذ الدورات الاولى للمهرجان السنوي، على حضور الموسيقى والانغام العراقية، برغم ظروف الحصار الاقتصادي والثقافي والدبلوماسي المفروض على البلاد اثر غزو الكويت، اي انها وفرت للموسيقى العراقية ممرا واسعا للحضور في ارقى حدث عربي يتعامل مع الفن الموسيقي الأصيل انغاما وبحوثا ودراسات.
وفي العام 2010 افتتحت الحفني الحدث السنوي الابرز في الحياة الموسيقية العربية المتواصل الانعقاد في القاهرة منذ 1991 لافتة "منذ اليوم الاول لميلاد هذا المهرجان والمؤتمر وانا اعتبره اعز الابناء، لم ابخل عليه بحب او فكر او جهد ... واضعف امامه" .
وربطت الحفني بين رسالتها الفنية والجمالية ورسالة والدها الموسيقي العربي الراحل محمود الحفني" انا ابنة لرجل جاهد وناضل لاقامة اول مؤتمر للموسيقى العربية عام 1932، اي منذ 78 عاما. لم تضعف عزيمته او يفتر حماسه او يقل جهده فى الحرص على اقامة مؤتمر بعد الاخر. ثم سعى لتكوين المجمع العربي للموسيقى التابع لجامعة الدول العربية .. وعين رئيسا شرفيا له الى ان توفى الى رحمة الله عام 1973 .
فوجدت نفسى مدفوعة بحبى لوالدي ومعلمي اولا، ولحبى للموسيقى العربية، سرت على نهجه كي احافظ على هذا الانجاز الموسيقى العربي العظيم" .
واعتبرت الحفني مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية مركزا مشعا في مهمة الحفاظ على اصالة الموسيقى العربية قائلة " اصبح المهرجان حائط الصد الوحيد ضد محاولات النيل من موسيقانا التي تمثل عنصرا بارزا من عناصر الهوية العربية والمدافع الرئيس ان لم يكن الوحيد ضد دعاة التغريب والتقليد والجري وراء العالمية المفتعلة".
وكان الحضور العراقي واضحا في اعمال مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية التاسع عشر 1-10 تشرين الثاني 2010 ، اذ كان المؤتمر شهد مشاركة علمية وفنية لافتة مثلها الباحثون: حبيب ظاهر العباس، د هيثم شعوبي ودريد الخفاجي فيما كانت اطلالة الفنان الباحث سامي نسيم باتجاهين، حين ظهر باحثا مرة وقائدا ومؤلفا وعازفا ضمن امسية فرقة منير بشير بدار الأوبرا المصرية مرة اخرى.
3
لم يجعل المؤلف وعازف العود العراقي نصير شمة من كل النجاح الذي حصده عربيا ودوليا، امتيازا فرديا، كان كافيا ليجعله اسير " نجومية " وان كان يستحقها، فهو ظل يعرض افكارا على مؤسسات ثقافية وفكرية عربية من شأنها تحقيق حلمه في تأسيس معهد لتعليم العزف على العود وصقل مواهب ومدارك اجيال تقرأ الموسيقى العربية والشرقية باحترام تستحقه. وفي الوقت الذي كان شمة على وشك الاتفاق مع جامعة لندن، التي قررت تنفيذ المشروع، كان يأمل في ان تأتي المبادرة ولو بربع الإمكانيات من جهة عربية، وهو ما تحقق حين وافقت مستشارة دار الأوبرا المصرية والباحثة ومديرة مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية د. رتيبة الحفني على ان تضيف دارها، " بيت العود العربي " الذي اضاء فيه نصير في العام 1997 شموعا كثيرة، صبر عليها كثيرا كي تضيئ المطرح وكي تتمكن من جذب محبي معرفة وفن راقيين. وهكذا بدأ الموسيقار العراقي مشواره "المصري" مع "بيت العود العربي" الذي صار لاحقا، ملمحا موسيقيا رصينا في اكثر من عاصمة عربية.
4
مطربون وباحثون وموسيقيون عراقيون كان يحضرون بقوة مؤثرة في المهرجان الذي كانت الراحلة الحفني تعتبرها جزءا حيا منها، فهناك من غنى واعطى النغم العراقي احلى ما فيه من علامات رفيعة : الموسيقار كوكب حمزة، مطرب المقام حسين الاعظمي، المطرب كاظم الساهر، منشدة المقام العراقي فريدة محمد علي، والمؤلف والمايسترو محمد عثمان، ود شهرزاد قاسم حسن، وسحر طه، وحميد البصري، ود علي عبد الله، والراحل حسين قدوري، ود صبحي انور رشيد، وباسم حنا بطرس، في البحث الموسيقي، وغيرهم الكثير ممن حضروا من بقاع العالم باسم العراقي ثقافة ونغما رفيعا، في مشهد كان يضمه "مؤتمر ومهرجان الموسيقى العربية" بدار الاوبرا المصرية، الذي طبعته الحفني بلمساتها الكريمة ثقافيا وإنسانيا.