الفيديو الذي يتداوله الناس لاستجواب شاب يقال انه مفجر مجالس العزاء، وبغض النظر عن مدى صحته ودقته وافتراضه ان شيعيا كان يفجر الشيعة مقابل المال، يجعل المرء يشعر بأن ادوات "الجريمة العادية" بدأت تشكل تحالفا مع الجريمة الارهابية. انه امر يجعلنا نسأل عن الفقر حين يتحول الى دافع جرمي، وفعل انتقامي غير عابئ بشيء.
الشاب الذي يعرضه الفيديو لم ينشأ في عائلة طبيعية لان لديه مشكلة في تلفظ الكلمات، ويبدو انه بلا اصدقاء يتحدث معهم كثيرا ويدرب حنجرته ولسانه على التلفظ الواضح. اي انه ليس مجرد فقير، فأغلبية اهلنا الفقراء لم يتحولوا الى مجرمين، وتراهم يكدحون في اسوأ ظروف الطقس، ويحرصون على ان يعودوا مساء محملين بطعام لعائلة يحبونها ويقضون سهرة متقشفة مع اصدقاء او حبيبات، وهؤلاء شريحة قانعة ملتزمة بالحد الادنى من شروط السلم وقواعد الاستقرار.
لكن الشاب الذي ظهر في الفيديو ولم يكن يحسن حتى تلفظ الحروف بشكل واضح، يجعل الكثير منا يتذكرون فتيانا منبوذين، بلا عائلة دافئة ولا اصدقاء. لم تتطور مهاراتهم ولم يحظوا بقبول اجتماعي. الشاب الذي يقول انه من سكنة الحواسم، لم يحظ بنموذج لالاف العوائل الشريفة المضطرة لان تقطن الحواسم. واضح ان الشاب حين سقط صدام حسين، لم يكن يبلغ من العمر الا نحو ١٠ سنوات، اي انه فتح عينيه على حواسم الدولة والسياسة والامن والسكن. لم يفهم معنى دولة لانه جاء بعد انهيارها. ولم يفهم حقيقة ارتال المسؤولين الباذخة، ولا خبر لديه عن احلام الاستثمار النفطي، وربما لا يعرف ابو بكر البغدادي. انه معزول منبوذ، روحه معذبة وفقيرة بلا دفء ارضي ولا سماوي. شيء يجعلنا نتذكر التعليق الكلاسيكي لخبراء السيكولوجيا الذين يدرسون حالة القاتل المتسلسل فيقولون: من الواضح انه امضى طفولة معذبة.
تبقى هذه مجرد افتراضات، ولكن الامر يستحق ان نمارس المونتاج داخل الذاكرة والوقائع لنحاول تصور نموذج من الذبح الغامض. ربما فقد هذا الشاب اباه في واحدة من حماقات صدام حسين، او نتيجة حماقات الزرقاوي واخطاء طبقتنا السياسية التي تخرج علينا بعد عقد دموي لتستعرض امامنا سذاجتها وتتداول تعابير من قبيل "معجون المحبة" متخيلة انها جاءت بما لم يأت به العباقرة، ومتجاهلة المشاكل العميقة لهذه البلاد.
ليس مجرد فقير يسكن الحواسم، من يفجر المفخخة بدم بارد. انه فقير الانتماء للجماعة الانسانية، لانه ظهر في لحظة تفتت الجماعة وتخليها عن اشياء كثيرة، وبات هو وآلاف من اشباه المشردين، يشعرون بأن من المبرر لهم فعل كل شيء للحصول على شيء، وهم دونما شك يؤمنون بأن المجتمع المذبوح، لم يلتفت اليهم وسلبهم ابسط الرغائب وأيسر الحاجات. وأن التفخيخ لون من الثأر، فالموت نفسه شيء عادي، لان الحياة حكاية تافهة لا معنى لها، بالنسبة لشباب لم يروا دولة ولا فرصة ولم ينتموا لقواعد المجتمع، فاستوعبتهم قواعد الموت.
لا اتذكر في اي كتاب كان يتحدث الملياردير بيل غيتس مالك مايكروسوفت عن اضطراره للتحرك برفقة حراس شخصيين اقوياء، وكيف ان لدى ابنائه فوجا من الحمايات الشخصية. هو حزين من اجل ذلك، ويقول ان الظلم في العالم اصبح قاسيا الى درجة ان مئات المشردين في نيويورك، مستعدون لفعل اي شيء من اجل الثأر من الاثرياء وتخريب قواعد المجتمع المستقر "الظالم". ويذهب ابعد من ذلك قائلا: اذا بقينا بلا رحمة، فسنواجه ثورة فرنسية في اميركا، لا بهدف اسقاط الباستيل، بل لمجرد النيل من استقرار المجتمع، الذي يفترضه المنبوذ المسكين، مؤسسة ظلم تستحق التدمير. وماذا في وسع غيتس ان يقول يا ترى لو اتيح له تفحص حالنا في اللادولة هذه؟ وكيف نخفق في العثور على امثال "الحريشاوي" لاعادة تأهيلهم، لكن "قواعد الموت" تعرف كيف تقوم باستيعابهم، كي تسخر وتعبث وتقول لنا كل لحظة اننا مجرد "دولة فاشلة".
مفجر الفواتح "ثائر" على الباستيل
[post-views]
نشر في: 24 سبتمبر, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 1
حسن الغزي
شكرا على هذه الاتفاته الرائعه من الى شاب وصح الكلام بانها دوله فاشله