TOP

جريدة المدى > عام > "المعرفة النقية" في التطبيق!

"المعرفة النقية" في التطبيق!

نشر في: 28 سبتمبر, 2013: 10:01 م

ما انقطع مسعى الانسان للخلاص من الاستقطابات والصراعات، حتى لقد ارهق ذلك كاهله وفكره وكلما استقام خط السعي، فوجيء الفكر والثقافة باختراقات تعيد العجلة الى اتجاهها الاول. فقد حاولت الاديان ذلك بجهد كبير عقلاني وروحي وباءت الجهود بفشل واضح وان لم يكن كل

ما انقطع مسعى الانسان للخلاص من الاستقطابات والصراعات، حتى لقد ارهق ذلك كاهله وفكره وكلما استقام خط السعي، فوجيء الفكر والثقافة باختراقات تعيد العجلة الى اتجاهها الاول.
فقد حاولت الاديان ذلك بجهد كبير عقلاني وروحي وباءت الجهود بفشل واضح وان لم يكن كليا. وحاول مصلحون انسانيون وحكماء لكنهم ظلوا وافكارهم في عزلة. ثم جاءت الحركات السياسية والاحزاب ونظرياتها فوصلت الصدامات، بينهم انفسهم او مع الاخرين، حدا فاق ما في المجتمعات البدائية وعمى الهوس القبلي.
وتحاول الثقافة الحديثة ان تستخلص رأيا يمكن ان يضمن سلامة "الهوية" للجميع، فكانت النتيجة حتى الان مجموعة متباينة من الافكار منها رأي امتلك نوعا من السماحة المسيحية يقول: ان الشعب تجمع من الافراد يعيشون في انسجام في ظل القانون.. "لكن ضمن هذا ظهر سجال جديد- قديم يقول ان الحزب "الطليعي"، وهذا غالبا ما يكون راديكاليا، يؤدي دورا متميزا في سيرورة التاريخ ومرحلة من التغيير الاجتماعي. واعطى لنفسه حق المصادرة او الازاحة لما يقف في طريق "التقدم" او "تقدمه".
وهنا عدنا الى جعجعة المطحنة الاولى. ويلاحظ في الحالين غياب الذات غير المتمركزة في تجمع وغير الفاعلة في آن واحد. وسواء كان هذا حقا او كان ذلك هو الحق. فبعد كل "الطروحات"، وقف الفرد، الذات، يريد حصته فردا، سواء بوصفه خارج تضامن الجماعة السياسية او بوصفه ضمنها فاعلا واعيا في التغيير.
ووجد الانسان، المثقف بخاصة، تعبيرا "حقيقيا" عن دخيلته، عن فردانيته المؤممة وكثرة الكتب والتآليف ووجدنا لذة وارتياحا فيما نقرأ من افكار المدارس الثقافية الحديثة والدعوة الجميلة المبهجة الى "المعرفة النقية" البعيدة عن الاستقطابات والصراعات.
كم مفرح هذا وكم يلبي حاجات ظلت مرجأة عصورا! لكن شرط حضور هذه "المعرفة النقية" هو التخلص من تقاطعات الجنس والطبقة الايديولوجية والتاريخ وتنحية كل صراعات الواقع المادية الاخر ومتعلقات الانثروبولوجيا. المعرفة النقية لا ترتضي أي نوع من الاستقطاب!
وراء سلفنة وجمال هذا العرض، يستوقفنا ما يجب الا نغفله. ذلك اننا "حيدّنا" الثقافة من ان تسهم في اسناد تحرر الشعوب من جهلها واوبئتها وجوعها، والاهم من استعمار "ها" ما دمنا نريد أن ننأى عن الاستقطاب والصراعات. ولاننا شعوب تحت الوطأة، فان تفكيرنا غالبا ما يتخذ منحى اكتئابيا، او رفضا شديدا وغضبا. هذه، ولا مهرب من الحقيقة، مدارس خرجت من الرحم الكولونيالي. وهي بهذا "الجمال" المظهري تسعى لخلق او لصنع مجتمعات مستعمَرَة. هي الان تصنع استعمارا مدنيا.
بعيدا عن الصراعات، بعيدا عن التاريخ والطبقة والايديولوجيات واشكالات الواقع، او في الاقل ارجاؤها.. هي بهذا تخلق فضاء لشعوب خاضعة راضية عبر انتاج معارف جديدة واشكال معقدة وجديدة من اللذة في القراءة والطعام والمشهد والفرح "الجغرافي" لا التاريخي. الدعوة الى النقاء المعرفي لا يظل نقاء بعلاقاته مع النمطيات الكولونيالية "غير النقية" مثلما مع اي نوع من الصراع او الازاحة!
انا لا اتهم المثقفين الكبار، اساتذة الفلسفة الجديدة. هم اساتذتي. ولكني اقول لثقافتهم بالنسبة لنا، شعوب العالم الثالث ومادونه، نتائج مثل هذه. وهذه النتائج لا تكون النتائج بالحجم نفسه بالنسبة لشعوبهم..
الجهد المعرفي المخلص هو مكسبنا الانساني المحترم وهو العمل المتسم بالفضيلة. هذا اقرار. لكن المشروع الثقافي الاوربي يعمل بدوافع. واحد هذه الدوافع دافع النظر الى "الخارج" وهذا نظر وراءه دافع تسلطي لا بد من ان ينطوي على ضرب من المواجهة. فلا يستمر انفتاح ثقافته على المستقبل ولكنها تنغلق وتثبت عند مصالح المؤسسات المنتجة والمتوجهة اساسا الى اكتشافات و"اسواق" منوعة جديدة. وماذا امامها؟ امامها "ثقافة" حاضرة لكن محنطة "تشهد ضد اهلها" كما يقول فانون..
"صناعة الكولونيالي تتمثل بامكان زيادة قابلية المحلي للاصلاح في ظل شروط معينة من الضبط والتحكم"  "فهم يتعاملون مع ناس المنطقة تعاملا معجميا فهؤلاء للقراءة وللحذف وللاستنتاج وللابحاث، كأي مخلفات حضارية يمكن التقدم عليها بشكل "مأمون" بتعبير ادوارد سعيد.
وكما ترون، ما ان بدأنا نرتاح لما يسمى بالمعرفة الانسانية النقية الا وحصلت الانعطافة، المرجأة، وبدأ يكتمل ثانية انغلاق الدائرة. لامعارف منفصلة عن المصالح. كل استقطاب يتعارض والنقاء. والمعرفة هنا اما حاضنة لـ "اخر" او مُسْهِمة في تكوينه وفعله.
وسواء كانت ثقافة هي او سلاحا، المصالح مصالح. ولن نتخلص من الاستقطاب والضدية الا حين تتفق هذه المصالح، وهذه المصالح، اقتصاديا ليس من طبيعتها الاتفاق! وفي الوقت الذي نحيي فيه انسانية هذا التوجه الثقافي فنحن لا نغض النظر عن "التنكر" فيها ونتيجة التنكر، بتعبير "لا كان"، هي التمويه... وهذا يعني اننا نضيف الى محاولات التزييف التاريخي زيفا حضاريا جديدا وليبق، اسمه "التمويه"حتى يجدوا له اسما اجمل..
مادمنا بصدد صناعة التمويه، إذن نحتاج الى المزيد من الكشف ونحتاج لأن نخرج من حدود "ثقافة الثقافة" الى الثقافة" العملية. اعني التجارة، والتصنيع، وفنون الاعلان، والتصدير، والاعلام، والادارة. وهذه كلها اليوم مع المعرفة النقية، افتراضاً، او ثقافة الثقافة وخاضعةً لادارة وتنمية قوى جديدة تسلطية تخدم مجمل المصالح العليا لتلك القوى بتقنيات جديدة، معرفية خالصة و عملية في آن!
التجار الكبار يمتلكون تقنيات معقدة ويتمتعون بتواطؤ السلطات السياسية والاجتماعية وهم يفسرون المبادلات الطبيعية الحرة باسلوب الدولة نفسه وبلغتها احياناً.
نحن اليوم في زمن الشركات العابرة للأوطان والتي تطورت اكثر وسيتطور الباقي الى الشركات العابرة للقارات! هذه وممارساتها ونظرياتها وبرامجها تقدم بديلا مضاداً، قالبا رأساً على عقب للنظرة الماركسية وتطبيقات الاقتصاد الماركسي فعمله اصلا عمل مضاد.
وامام هذه التحولات الدرامية في الاقتصاد العالمي وقوى رأس المال، لابد من الاقرار بالثقافة الجديدة لرأس المال العالمي. فهل يمكن ان تظل المعرفة النقية نقيةً كما نتمنى  والعقل الرأسمالي والثقافة الاجتماعية والمختبرات وورش التصنيع والأكاديميات، هي ورش تصنيع في الكثير منها، وحتى الاستوديوهات الفردية تعمل لتطوير مفردات القوى الفاعلة، سواء كانت المفردات بصورة دواء أو أجهزة كشف انسان أو فضاء أو تحليل دماغ أو صناعة انسان آلي أو اجهزة قتل بالجملة أو وراثة وأحياء او ... تربية!
هذه كلها معارف ومجموعها يشكل ثقافة وثقافة نقية تؤدي احيانا كثيرة مهاما غير نقية، للقوى المهيمنة.
لا حديث للثقافة أي ثقافة، بمعزل عن اتجاهات الاقتصاد العالمي واستثماراته واتجاهات تطوره. صرنا أذن نتحدث عن الثقافة الحاضنة وهي ثقافة صرف، ثقافة نقية كثقافة قبل ان تكون حاضنة، وقبل ان تكون قوة مهمة ضمن طاقة الرأسمال .. الرأسمال في ايامنا يختزل مراحل وينوع مصادر قوته ويستدرج ما كان، الى امد قريب، بعيداً عنه.
هذا ناتج مؤكد لتناميه المعرفي ولا غرابة من توسع أي بؤرة صغيرة على الخارطة الاقتصادية تعتمد ثقافة صرفا وعلمية  هي خلاصة ثقافات وعلوم العصر.
ننتهي الى الاقرار اولا بوجود ثقافة خالصة او صافية كما هو الحال بما يسمى ثقافة نقية أو علم صرف ولكننا نقول هي والعلم لا يحتفظان بصفاتهما بالتطبيق!  

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram