TOP

جريدة المدى > عام > فـي البحث عن غير المدوّن..الفن لعبة سحرية لكنها أكثر الألعاب جديّة

فـي البحث عن غير المدوّن..الفن لعبة سحرية لكنها أكثر الألعاب جديّة

نشر في: 29 سبتمبر, 2013: 10:01 م

لم تزل العملية الإبداعية تختزن الكثير من الأسئلة بل تطلق أسئلتها على مدار الساعة وهذا ما جعل المادة الإبداعية مناسبة عظيمة للتأويل، تأويل النص ورموزه ومقاصده لنواجه المزيد والمزيد من مستوياته المتنوعة ودلالاته اللغوية والرمزية، ومنها ما لم يخطر على ب

لم تزل العملية الإبداعية تختزن الكثير من الأسئلة بل تطلق أسئلتها على مدار الساعة وهذا ما جعل المادة الإبداعية مناسبة عظيمة للتأويل، تأويل النص ورموزه ومقاصده لنواجه المزيد والمزيد من مستوياته المتنوعة ودلالاته اللغوية والرمزية، ومنها ما لم يخطر على بال الفنان والناقد والمتلقي معاً.

أسئلة الإبداع في غاية التعقيد فلا ينتظر مني القارئ إجابات قاطعة بهذا الشأن وأنا أركض متابعاً ذلك الشعاع المنبعث من العمل الإبداعي والإمساك به.

سئل الشاعر الراحل محمود درويش عن ماهية الشعر فأجاب "لو عرفت ما هو الشعر لكتبته واسترحت" وهذا يعني أن الشاعر كثيراً ما يتوهم أنه كتب قصيدته/ الحلم التي تجب ما قبلها ليكتشف أن قصيدته الجديدة لم تكن سوى حلقة من حلقات الدخان المبددة في الريح وإن ضمها كتاب وعليه معاودة الكرة من جديد حتى .. الموت.
الأسئلة تولد أسئلة من رحمها أو على هامشها، وأظن أن الأسئلة أنفع في هذا المجال من طرح الأجوبة لأن الأسئلة مفاتيح بينما الأجوبة تظل غرفاً مغلقة.
ثمة كيمياء داخلية غامضة المعادلات تدخل في عمق أي نص فني، ولكل نص كيمياؤه الخاصة، من هنا يبدو العمل الفني أكبر وأعقد من حيل السحرة الذين يطيرون حمامهم من أكمام قمصانهم بخفة الحركة والخداع، برغم أن ثمة لعبة سحرية في كل عمل فني، لكن هذه اللعبة في الفن هي أكثر الألعاب جدية واستعصاء وغموضاً.
الشروع بالعمل الفني والاستمرار فيه يترافق مع بصيرة الناقد اليقظ في وعي الفنان نفسه: يحذف هنا ويضيف هناك وقد يرمي توصلاته النهائية إلى سلة المهملات، وهنا ثمة سؤال أيضاً: من قال إن ما حذف يستحق الحذف (غير المدون) وما أضيف يستحق الإضافة.. إلا يكون المحذوف أحياناً أهم من المضاف؟
من أين يجيء الإبداع؟
هناك من يعتقد أن الشرارة الإبداعية تأتي الفنان من الماوراء على شكل هاتف خافت النبرة يصيب المبدع بومضة البرق الخاطفة التي على الفنان أن يديمها ليحيلها إلى لحظة مزمنة.
الإبداع شكل من الاستكشاف لا الاكتشاف، أي بلوغ منطقة جديدة لم يعرفها أحد من قبل، وهو بهذا عملية تخضع لحسابات الصواب والخطأ، تتقاطع هنا وتلتقي هناك، تبدأ وتتطور وتتراكم لتبلغ نقطة التغير النوعي، ومن هنا يقال إن هذا الفنان ذو خبرة كبيرة، بينما يفتقد ذاك الفنان إلى مثل هذه الخبرة، على ما في الأمر من تناقض واختلاف، وكأننا إزاء حوار نقدي يتيح للجميع المشاركة مثل أي حوار ديمقراطي سواء بين الفنانين أنفسهم أو بينهم وبين متلقيهم ومستهلكي فنونهم إذ لا وصفة محددة ولا سكة مستقيمة على الجميع الالتزام بها أو السير وفقها وعدم الحيدة عنها.
من السمات الأخرى للفن هي النقصان، فلا كمال ولا تمام مهما هتفنا ونحن نتسمر أما لوحة تشكيلية: إنها العبقرية عينها! ولو بلغ أي فنان كمال عبقريته ومنتهاها لتوقف عن العمل/ البحث/ الاستمرارية، لأن عمل الفنان لا يبلغ نتائجه المأمولة من دون تجاوز عمله السابق، حتى عمله الذي أنجزه للتو.
ثمة فجوة (فجوات) معرفة في ثقافتنا العربية هي اقتران الإبداع بالأدب والفنون الجميلة المصاحبة من دون الإشارة إلى الإبداعات العلمية الجبارة التي غيرت شكل ومضمون الحضارة البشرية، وأحسبها غيّرت أكثر من الفنون بكثير مع مراعاة التخصص واشتغالات الفنانين والعلماء المتباينة في الجوهر والشكل، لكن روح التغيير واحد هو: الجرأة على الاستكشاف والحلم بطريقة خلاقة.
عندما يئس مساعد توماس أديسون (مخترع الكهرباء والصور الفوتوغرافية المتحركة والفونوغراف وغيرها) من التوصل إلى أي نتيجة أثناء إحدى التجارب قال لمعلمه: لقد جربنا أكثر من ثلاثمئة طريقة وفشلنا.. لقد يئست. أجابه أديسون: العكس هو الصحيح، يا صاح، إن هذا يعني أننا توصلنا إلى أكثر من ثلاثمئة محاولة فاشلة لن نكررها مستقبلاً!
إنها إشارة عابرة لا أكثر.
على أن المتلقين للفن ومستهلكيه متنوعو المستويات ودرجات التذوق والفهم (الأميون حجر عثرة على هذا الطريق ويضعون مبدأ "الفن للناس" مثار جدل وشك) إذ ليس كل من يشاهد لوحة ليوناردو دافنشي، المخترع ومصمم الطائرات والفنان التشكيلي، "الموناليزا" سيدرك تلك الابتسامة الغامضة لزوجة التاجر الفلورنسي حتى لو استعان بأدق العدسات المبكرة التي لن تكشف له غير تقشرات الزيت في اللوحة الأصلية نفسها، وسيضيق ذرعاً بتخرصات الفن والفنانين ويعود أدراجه لمشاهدة التلفزيون.
يأتي إيتيان سوريو ليقول عن اللوحة نفسها: "هناك عالم بأسره تعرضه عليّ هذه اللوحة"!
يضيف سوريو: "الأمر الفريد في المثال الذي قدمناه هو إن اللوحة (الجيوكاندا) تظهر، كما يقال، امرأة اسمها موناليزا اتخذها الفنان نموذجاً له، وهذا غير مدون في اللوحة وقد أتجاهله، ومع ذلك تبقى أمامي سيدة شابة أو صورة لامرأة مجهولة ولا يهمني من أمرها أن تكون من نسيج الخيال أو وليدة نزوة عابرة أو إبداعاً صرفاً.. كل ما تتطلبه اللوحة هو أن أرتقي بهذا الوهم أو الحضور المتعارف عليه والمكون من سيدة شابة مبتسمة في مكان ما يضم جدولاً وسهلاً فضلاً عن التلال والسماء والغيوم". (*)
إن "غير المدون" هو نوع من النقصان لكنه نقصان ضروري يجعلنا نبحث عنه لنزداد شغفاً بالعمل الفني عبر محاولة العثور عليه قيمة إضافية لهذا العمل.
إن "غير المدون" هذا هو إحدى "المناطق" التي تغرينا بإغناء الوهم الجميل الذي تولد جراء مشاهدة اللوحة وهو جزء من عدة الفنان وخبرته وسائر المواد الخام التي لا تعني الناقد أو المتلقي فما يعنيهما هو "الشيء الخاص" كما يسميه سوريو، الذي يتكون من الكائنات المشخصة الوهمية وظواهر اللون والإضاءة والأوضاع الشكلية التي ترمز إلى شكل غائب وتدفعني إلى تكوين "فكرة" عنه تقع بين منتصف الطريق بين الخيال الصرف والحضور الملموس وأنا أذعن لهذا الوهم الذي فرض علي وارتضيته وكان أقرب إلى الهلوسة اللذيذة.
(*) "تقابل الفنون" كتاب إيتيان سوريو ترجمة بدر الدين القاسم مراجعة عيسى عصفور، وزارة الثقافة السورية 1993.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram