سأحمل معي هذا الكلام وأحاول ان أكمل سلسلة حوارات مع عدد من مراكز القوى الدينية والسياسية، في النجف والبصرة وبغداد ونينوى. وأحاول اختبار ممكنات تبديد اليأس.
الكثير من العراقيين يشعرون بالخيبة وبعدم إمكانية إخماد الموت أو الوقوف بوجه الاحتقان الطائفي المؤشر بالدم. فمن يتحدث عن ممكنات السلام يوصف بأنه حالم، ومن يبشر بتسويات بديلة عن الحرب، يواجه اتهاما بالسذاجة. لكن الأمر يدفعني للتساؤل: لنفترض ان موجة الموت أعلى من صوت العقل، وأن العقلاء لن ينجحوا في وقف الحروب.. ولكن أليس في وسعهم تخفيف آثار الحرب وتقليص سوء المستقبل وكسب جزء من الناس المحشورين في طوابير الصراع، إلى معسكر اللاعنف؟
المشهد اليوم يحتفي بالصوت العالي الداعي للحرب، ودعاتها يأبون ان تكون إلا على أساس مواجهة طائفية. وفي مقابل هذا الإصرار، يدب اليأس إلى معسكر السلام، ويشعر أهله أحيانا بلاجدوى أفكارهم. فيسلمون الميكروفون إلى زعيق المتاجرين بالدم، وخادعي البسطاء، وسادة الدمار والحماقة. بينما المطلوب من معسكر السلام ان يواصل التبشير بدعواته عبر قوة موازية وصوت جهير لا يعرف الملل، وحسب الاعتدال ان يكسب إنسانا واحدا كل يوم ويخلصه من غسيل الدماغ الذي يقوم به متشددون سنة وشيعة، يحلمون بحرب شاملة رغم إدراكهم ان حربا كهذه ستظل بلا نصر نهائي.
والدعوة للسلام لكي تتخلص من يأسها وتتمكن من "ضبط النفس" على أسس واقعية، مطالبة بأن تتخطى مجرد الإدانة والشجب والحث على التعقل، إلى ابتكار مبادرات شجاعة ترسم سيناريوهات واضحة لتسوية الخلافات الكبرى.
أول القناعات التي نحتاجها في العراق، هي إمكانية الفصل بين ملف خلافاتنا الداخلية، وما يدور في الإقليم من حولنا. ولاشك أننا نتأثر كثيرا بما يحيط بنا من أحداث، لكن جبهاتنا الداخلية تمتلك من الأوراق وهوامش المناورة، ما يتيح لها بناء تسوية مستقلة، شرط ان تكون صريحة بلا تحذلق ولا "معجون محبة" كالذي رأيناه في استعراض الخزاعي الباهت. ان القول بأننا تحت رحمة ملف سوريا وإيران بالكامل، هو استسلام لموت رهيب حتى إشعار آخر.
أما المحنة الأخرى التي تتطلب مواقف شجاعة ومستعدة للتضحية فهي لحظة تصميم التنازلات المتبادلة. استعار لهيب الموت يتطلب البدء بالتنازلات لخفض مستوى الاحتقان، لكن التوقيت يضبط اليوم على إيقاع الانتخابات، ويخشى معتدلون كثيرون ان يبدأوا رسم صفقات سلام فيمنحون خصومهم "من داخل الطائفة" هدية تتيح التشهير بالمعتدل وتقديمه كمتخاذل واستسلامي. وجبهة الاعتدال حاليا أسيرة توقيتات الموت وتوقيتات الاقتراع وتهم الخصوم واحتمال الخسارة. وهي محنة سياسية وأخلاقية كبيرة لكنها أيضا نموذج كبير يقوم باختبار روح المسؤولية ومدى النضج الذي تحقق لطبقتنا السياسية، ومدى استعدادهم ليتكاملوا كرجال دولة ويكبحوا جماح رجال العصابات.
المتشددون الذين يضحكون على ذقوننا ينغمسون في الحرب، وفي النهاية سيتفاوضون ويتصالحون. وكل ما نريد ان نقوله لهم ان الصلح ممكن بلا حرب، وان لا داعي لتنشيط أسواق البارود والدم وإثراء تجار المعارك.
كلمة المعتدلين لا يجب ان تتوارى، وعليها ان تسابق الرصاص والمفخخات، للوصول الى قلوب الناس. الشباب الذين يقومون بمبادرات رمزية، ورجال الدين الذين يحاولون إطفاء ما امكن من النيران، وبعض الساسة العقلاء الذين يستعرضون سيناريوهات العمل المشترك وخيارات الصفقة الوطنية الرابحة... هم الطريق الوحيد لتخفيف سوء المستقبل وتخفيف آثار الحرب التي أنهكتنا، وهم البديل الضروري في أي اقتراع مقبل، لأولئك الذين يعتزمون لتوهم رسم ميدان رماية جديد وإرسال المزيد من القرابين المذبوحة.
لا ينبغي ان نتعب من هجاء الحرب، لان الحرب جعلتنا محط سخرية الأرضين السبع والسماوات السبع، وكلفتنا ثلاثة أجيال وفرصا يصعب إحصاؤها.. وإرثا من الحماقة ننوء بحمله.
هذا المقال ليس ترديدا لشعارات بائتة. لان دعاة الحرب لا يتعبون، وعلى مطفئي الحرائق ان لا يوفروا جهدا ولا حماسة لردعهم، فالأوان لا يفوت أبدا.
لا تتعبوا من إطفاء النار
[post-views]
نشر في: 30 سبتمبر, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 2
مهند
ان معظم الناس بطبعهم مسالمين و نابذين للعنف و التعصب و يودون العيش و التواصل مع الاخرين من دون كيل التهم و التهميش و الازدراء بالاخرين. و لكن و مع الاسف الشديد فان الاصوات العاليه و المتعصبه و المتشنجه تتغلب في كثير من الاحيان على الاصوات المتعقله، و خاصه
منتصر ابو سحاد
استاذي الفاضل لم ولن نتعب سنبقى نحمل الماء مهما اتسعت نار الطائفية ماذا فعلنا حتى نتعب لا والله مادمت وامثالك صامدون ستندحر الطائفية من اي شئ تعبنا من التظاهر اومن الاعتصامات ام من الاضرابات فاننا لم نفعل ذلك حتى لمرة واحدة علينا الصمود امام هؤلاء المهزوم