في العام 1988 جاءني ولدي أمجد مهموما بعد أن استمع من مدرّسته تفاصيل سقوط طائرة الركاب الأمريكية التابعة لخطوط "بان أميريكان" التي تم تفجيرها فوق قرية لوكربي الاسكتلندية. عمره في وقتها لم يتجاوز الرابعة عشرة بعد. كان حائرا في إيجاد أي جواب منطقي يفسر به وجود القابلية على قتل الناس الأبرياء بتلك الطريقة البشعة. سمع من المدرّسة شيئا عن الصندوق الأسود "بلاك بوكس". فهم جيدا أن هذا الصندوق لو تحطمت الطائرة كلها أو احترقت بالكامل، فغنه يظل سليما ليخبر من يعثر عليه بأسباب حدوث الكارثة. قال لي ببراءة الأطفال النقية: لماذا لم يجعلوا الطائرة كلها صندوقا أسود حتى لا يموت أحد فيها لو حدث ما حدث؟
كانت الإجابة صعبة علي لأني أُحدّث طفلا يعرف معنى الحياة ويقدرها ويكره كل من يسعى لقتلها. يا له من خيال طفولي إنساني يجد الحياة في صندوق صغير أفضل من الموت في أكبر فسحة بالدنيا.
اليوم تذكرت أمجد وسؤاله وأنا أتتبع أخبار مسلسل القتل اليومي للعراقيين أمام أنظار حكومتهم الصامتة العاجزة عن أي عمل عدا النهب والفخفخة وتوزيع الألقاب الفارغة. ومثلما سألني ولدي، تساءلت: لماذا سموه الصندوق الأسود؟ ولم لم يجعلوه أزرق أو أخضر، مثلا، خاصة أن الأسود لون يصعب اكتشافه عند البحث بعد تحطم الطائرة لأنه لا يعكس الضوء؟
لم أجد تفسيرا غير أن اختيار الأسود جاء من باب اللياقة والإنسانية أيضا. من المعلوم أن الحاجة للبحث عن الصندوق الأسود تأتي بعد حصول كارثة ووجود ضحايا. والصندوق الذي وحده سيظل سالما يجب أن يتشح بالسواد احتراما وتقديرا لمن ماتوا ولذويهم أيضا. وهكذا يفعل كل ذي حس إنساني سليم.
ها هو العراق اليوم كأي طائرة مختطفة بيد الإرهابيين يرمون من شباكها من يشاءون ويقذفونه في أي مكان يشتهون. لا أمان في هذه البلد إلا لصندوق واحد يسكنه السلطان وحاشيته وأتباعه. إنه صندوق المنطقة الخضراء الحاوي على خيرات العراق وموارده والمحصن بأفضل وأدق وسائل الحماية. إنه مثل الصندوق الأسود يحمل أسرار البلاء والكوارث التي تحل بنا لكنه منزو في مكانه لا يطوله الحرق ولا القتل. الفارق أن من سماها الخضراء لا يمتلك الحدود الدنيا للياقة ولا خلية واحدة من خلايا الحس الإنساني. ولم لو يكن كذلك لسماها المنطقة السوداء حياء أو في الأقل، احتراما لضحايانا وقتلانا ونساء فقرائنا اللواتي صار لبس السواد يرافقهن مثل صباحهن الأسود.
صباح سيطول سواده إلى يوم القيامة ما دام الذي رماه خالقه زلزلة علينا لا يتزحزح من مكانه.
إنها "سوداء" لو كنتم تستحون
[post-views]
نشر في: 2 أكتوبر, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 2
عامل محسن فنجان
تحية طيبة . أحسنت أستاذهاشم تسبيب تسميتهم للون الصندوق مع العلم أن لونه الحقيقي أصفر أو برتقالي لسهولة العثور عليه
منتصر ابو سحاد
من قال لك سيدي ان لهؤلاء حياء واحتراما اقول لك سيدي في احدى العزائات صديق سال احد المسؤلين الله يجرم لماذا كل هذه الدماء من اجل من رد عليه اين الدماء كم يقتلون في العراق في زمننا اننا لانساوي حتى واحد بالمية من قتلا النظام السابق اليوم تلوموننا ونحن الذين