على إحدى بوابات الصحن الحيدري نقش خطاط نجفي مقولة لعلي بن أبي طالب تحذر من "مصارع العقول في بروق الأطماع". بعدها يكون في وسع المرء أن يواصل قراءة عيون نهج البلاغة منحوتة أو منقوشة على البوابات وحواشي الأسوار والزوايا القاشانية أو الكريستال. كأن الخليفة الراشد يرقد تحت جبل من كلماته التي أثارت السجال قرونا بين اللاهوتيين والمتصوفة وأهل التاريخ والسياسة.
وفي مهابة ينسجها بحر القبور الأبدية حول المرقد، وأشباح كل التواريخ الصعبة، والمدينة التي تتخلص ببطء من خرابها، يشعر المرء بالسعادة في "شارع الروان" المعبد حديثا بحجارة أنيقة كقلب تجاري حديث للمدينة، يمنح أملا ببداية انزياح الخراب، رغم القلق المحيط بكل شيء.
في وسعك هنا ان تعثر على تلك الحكمة المفقودة في دار السلطان. وما تسمعه من رأي راجح لا يقتصر على ما يدور حول زعيم التيار سليل أسرة الصدر، الذي سأنقل قريبا حكايات وحكايات سمعناها منه، ولا عند السيد الشاب الفاضل جواد، حفيد شيخ الطائفة أبي القاسم الخوئي، أو المحافظ عدنان الزرفي الذي يستضيفنا بلا ادنى كلفة متفاخرا بجمهور شاب حوله، بل تسمع الحكمة حتى وأنت تشرب عصير الجزر في السوق القديمة.
يحيينا رجل كهل ويناقش بعض ما نردده خلال مشاركتنا في برامج التلفاز، ويسأل بألم: كيف يريد المالكي إحلال الأمن وهو يعتقل المئات يوميا دون سياق معقول وينتظر من العوائل ان تكظم الغضب وتؤيد النظام السياسي وتمتنع عن إيواء المسلحين؟
عجوز تتجسس دونما قصد على الحوار هذا تقول كلمة "على الماشي" دون ان تنظر في وجوهنا: الشرطة يبيعون الموبايل بخمسة ملايين على مجرمي القاعدة في سجن أبو غريب، والفاشل بإدارة سجن شلون ينجح بإدارة ملّة؟
الأهالي متذمرون من غياب الاحتراف عند الحكومة. وفي بهو الفندق ينبهني صديق إلى رجل استخبارات ينزوي بعيدا لكنه يناقش بصوت عال عبر جهاز لاسلكي ما يقول انه بدا "وضعا مريبا" لعدد من السوريين المقيمين في الكوفة. حتى صرنا نسمع استفسارات الطرف الآخر وتفاصيل يفترض ان تبقى ضمن اخطر الأسرار. يسأل رجل هناك: هل هذه دولة؟
لكن النجف تمتلك زهوا لا يميزه الغرباء بسهولة. رجل دين فاضل يشير إلى مبنى الحزب الشيوعي العراقي وهو يقابل دار مرجع كبير، قائلا: لن يأتي احد ويطلب من الشيوعيين مغادرة مكان ديني، فنحن اليوم نفخر على حوزة قم بأن النجف تتسع للجميع، وقريبا سيكون هنا معهد للديانات الثلاث والمذاهب الخمسة، وسيعمل على تصحيح سوء فهم كبير يغذي اليوم كل الاحتقان الديني في العالم القديم.
فضلاء النجف يتمسكون بوشائج وتفاهمات تكبر مع التيار المدني. السيد مقتدى الصدر بتلك الأريحية المعروفة عن آبائه، يقول لي وللكاتب مشرق عباس ملاطفا وهو يجلس بيننا لالتقاط صورة تذكارية: أنا إسلامي جالس بين علمانيين، إما أن أكسبكم للدين أو تكسبوني للعلمانية! حفيد شيخ الطائفة الخوئي يقوم بتذكيرنا بان خطيب الجمعة في كربلاء يختار كلماته بحذر وبتنسيق عال مع المرجع الأعلى، وهو يمثل الرأي السائد في النجف، حين قال قبل شهور ان العراق "يحتاج إلى تعزيز للحكم المدني".
وتسمع حكايات كثيرة هنا، عن رفض شديد من قبل المرجعيات السياسية والدينية لأي لون من المشاركة العراقية في الاقتتال السوري، واعترافا، رغم مخاوف عديدة، بحق السوريين في الحصول على نظام تعددي منفتح بلا استبداد، وإدانة لكل العنف الرسمي والميليشياوي. وحزنا على غياب الحكمة الذي خرب أو لم يصحح، علاقات العراق بجيرانه العرب والعجم، وسخطا عميقا على الفرص المضيعة لإعادة النسيج الوطني إلى تماسكه.
النافذون يسردون لنا وقائع التفخيخ والتفجير في النجف، وكيف ينفذه أحيانا "أبناء المذهب" عبر تحالف معقد بين الفقر والجريمة والإرهاب، وان الحكاية اعقد من انقسام طائفي، وكيف تلقى العقول والحكمة مصارعها في "بروق الأطماع" والطموحات غير المتوازنة للفريق الذي يدير السلطة ويمتنع عن الإنصات لسيل النصائح والتحذيرات.
علي والنجف.. وبروق الأطماع
[post-views]
نشر في: 2 أكتوبر, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 4
خليل النعيمي
بلكت يقرة مقاتك الخطيب السيد الكبانجي
الشمري فاروق
عزيزي سرمد صباح الخير.....اكو مثل شعبي يكول... النعجه قبل متموت تاكل خبزة الراعي....فموضوع السيد المالكي مثل هل...... المالكي مات سياسيا....ومنذ زمن!!!!!!!!
علي العراقي
امام هذه الحكمة المتوازنة والصحافة الجميلة التي تتحدث بموضوعية وحب الوطن تاخذك الصحافة الطائفية التي تريد اشعال الحرائق في هشيم الصراع الدائر اتمنى ان تتحدث الى جريدة الحقيقة واخرى مثيلاتها وانظر كيف يتحدثون وكيف يصل خطابكم الجميل مع حبي
منتصر ابو سحاد
الانظمة المستبدة لاتستمع ولاتريد النصائح لانهاا نظمة ممستبد وطموحات السلطان وطاقمه لهم منصحين ومحذرين طائفيين ومجاميع من الشياطين والمنتفعين هؤلاء لم يمزقوا النسجين الوطني وحسب انم دمروا حتى النسيج الفكري والاجتماعي فما هو عمل المرجعيه الشجب والاستنكار وا