الجيل الشعري السبعيني في العراق ، كان جيلا" تجسييريا" بين جيل وآخر ، حيث طرح مشروعه الشعري عبر بيانات عدة ، و كان تصادميا" في التحدي و الجرأة و الإعلان و الموقف ، عندما أستنفر أدواته الشعرية في البوح و الدلالة والرمز ، بل و أشهر التمرد على الوا
الجيل الشعري السبعيني في العراق ، كان جيلا" تجسييريا" بين جيل وآخر ، حيث طرح مشروعه الشعري عبر بيانات عدة ، و كان تصادميا" في التحدي و الجرأة و الإعلان و الموقف ، عندما أستنفر أدواته الشعرية في البوح و الدلالة والرمز ، بل و أشهر التمرد على الواقع السياسي المؤثر و المنعكس على المشهد الثقافي العراقي عموما" ، حيث كان النظام الدكتاتوري مهيمنا" بقمعه و عسفه منذ مجيئه إلى الحكم في انقلاب العام 1968
و تصاعدت هذه الهيمنة ترديا" في الحروب العبثية و المكلفة التي خاضها هذا النظام ، حتى أدى الأمر الى وقوع هذا البلد تحت الاحتلال الأمريكي ، و البقية معروفة كما هي مواجعها الساخنة ، و التي تئن صراخا" و تنزف دما" ، سواء في الإحتراب الطائفي غير المعلن ، أو في التفجيرات الإرهابية المتواصلة من دون الحد منها ، أو في الإغتيالات بكواتم الصوت أو في أدوات أخرى !
و من جراء ما حدث و يحدث تردت الساحة الثقافية الى حد البؤس و الانهيار ، و هو واقع انعكس بتداعياته على مجمل مناحي الحياة الثقافية و الاجتماعية و السياسية ، و في خضم هذا التداعي يتساءل النقاد المعنيون بإحباط و يشاركهم في هذا التساؤل الشعراء أيضا" : ماذا حل بالشعر في العراق ، و أين هم كوكبة الجيل السبعيني ، هذا الجيل ( مالىء الدنيا و شاغل الناس ) ؟
لنترك الإجابة على السؤال الآنف الى أحد شعراء الجيل السبعيني ( فاروق يوسف ) دونها قبل سنوات عدة ، ربما تكون شافية في الجزء الأكبر منها ، أو هي إجابة في الأقل من داخل بيت هذا الجيل : أين هم الان ؟ لقد تشظوا في بقاع الأرض ، سلام كاظم في فنلندا ، زاهر الجيزاني في أمريكا ، كاظم جهاد في فرنسا ، شاكر لعيبي في الإمارات بعد أن عاش في سويسرا زمنا" طويلا"، هاشم شفيق في بريطانيا ، خزعل الماجدي كان إلى وقت قريب في ليبيا ( يقيم في هولندا حاليا" ) ، كمال سبتي في هولندا) توفي قبل سنوات خلت ) ، و أنا في أسوج
الآخرون لا أعرف هل ما زالوا في العراق أم غادروه ، غير أنني على يقين من مصير اثنين منهم ، هما صاحب الشاهر و رعد عبد القادر ، الاثنان هما الآن ميتان : الأول مات عام 1982 و الثاني عام 2003 ، الشاهر لم يترك إلا أثرا" شعريا" واحدا" هو كتابه ( أيها الوطن الشاعري ) و لا يفيدنا في شيء ، التفكير في ما يمكن أن ينتج عنه شعريا" لو أنه بقي حيا" ، أما عبد القادر فقد أمهله الموت قليلا" بما سمح له بإنجاز جزء من مشروعه الشعري
بينما يقول خزعل الماجدي أحد الشعراء المهمين في الجيل المذكور : الشعر العراقي يتنفس بصعوبة في داخل العراق ، في حين أنه أكثر حرية و نضجا في خارجه ، السلفيون و أتباع الدين
2
السياسي يجرّون الشعر العراقي الى العصور المظلمة بعد أن كان طليعة الثورات في الشعرية العربية و لكنهم لن يفلحوا لأنهم ضد العصر و ضد الحياة
في حين يقول الشاعر المحبط زاهر الجيزاني في شهادته : اليوم في العراق الحركة الشعرية تكابر في الأخص تيار الحداثة معتمداً على مابقي من طاقة موروثة الخصب ، ببساطة لا يوجد مناخ ثقافي سليم - توجد خرافات تعج في المدن و المشاعر – و هناك متعلمون متطرفون يعملون للأحزاب هم الذين يملؤون المؤسسات ، و سواء في المؤسسات أو خارجها هناك فعل مستمر لتدمير الحياة الثقافية في العراق من خلال التدمير الواضح للبيئة الاجتماعية الذي نشاهده من خلال انعدام الخدمات و فرص العمل و الحرية الشخصية و قذارة المدن و فساد الحكومة و احتقار الثقافة و المثقفين ، كل ذلك يمدنا بانطباع مؤكد أن مستقبل الشعر أعني ( خط تطور الشعر الحديث ) يعاني خطر التوقف و الشعر علامة العراق العالمية حضارياً – و ليست علامته حزب البعث أو حزب الدعوة أو هذا المعمم أو ذاك الجنرال 0
من هذه الشهادات و الاعترافات لثلاثة شعراء من الجيل السبعيني ، يمكننا القول أن الجيل السبعيني أسوة بباقي الأجيال الأخرى ، خفتت جذوته و تقلصت فاعليته في الساحة الشعرية العراقية الى حد بعيد ، بفعل العوامل التي دهمت العراق ، و أثرت بالتالي سلبيا" على عموم الثقافة العراقية كما أسلفنا ، و قد حاول أكثر من شاعر في هذا الجيل العودة الى العراق و الإقامة بصورة دائمية ، بيد أنهم غادروه محبطين و خائبين ، بعدما فوجؤوا و صُدموا بما حل بالعراق ، ثقافيا" و عمرانيا" و اجتماعيا" و اقتصاديا" و سياسيا" هذا أولا"
وثانيا" أن ديار الغربة لم تمنح هؤلاء الشعراء دافعا" و تحفيزا" لمواصلة منجزهم الشعري المتألق في العقد الثمانيني ، على الرغم من أن هذا العقد و الذي أعقبه شهدا حروبا" كارثية بالنسبة للعراق ، حتى أن يومياتها الثقيلة و الإجراءات السائدة من خلالها ، كانت جحيما" لا يُطاق لشعراء الجيلين السبعيني و الثمانيني على السواء ، لكن هذه الحروب و الأحداث و النتائج ، ربما كانت من الممكن أن تجعل شعراء الجيل السبعيني و لا سيما الشعراء الذين هربوا الى خارج العراق ، أن يواصلوا تجاربهم و منجزاتهم الى ما هو أكثر حداثة و تطورا" ، لا أن يتقوقعوا في منافيهم القريبة و البعيدة الى حد الجمود ، بل و حتى عدم التواصل مع نتاجاتهم السابقة ، حفاظا" على المستويات التي وصلوا إليها في هذا النتاج أو ذاك
و على سبيل المثال لا الحصر ، أن شاعرين في الجيل السبعيني : زاهر الجيزاني و خزعل الماجدي ، تسمرا في المراوحة و الإعتكاز على أرثهما السابق في المنجز الشعري ، و لم يواصلا
3
تجربتيهما في ( النص المفتوح و القصيدة الملحمية ) ، فالجيزاني ظل أسير مجموعته الصادرة في العام 1980 ( الأب في مسائه الشخصي ) ، بعدما راح يطبعها أكثر من مرة ، أي أنه لم يأت بمجموعة شعرية تتجاوزها أو في الأقل تكون بمستواها ، ما عدا قصيدة يتيمة كتبها في العام 2000يقول فيها ، (العراق ينحلّ مثل جدار من الطين وسط الماء )
و كذلك الحال مع الماجدي الذي إنهمك في البحث و الكتابة في الأديان و التأريخ القديم و الميثولوجيا أو علم الأساطير ، و بكم هائل من خلال مجلدات عدة ، و لم يأت بعمل شعري ملحمي و متطور أو حتى بمستوى ( يقظة دلمون ) و ( خزائيل )اللذين اصدرهما في الثمانينات من القرن الفائت
يبقى أن اقول ، أن ما ذكرته من أسماء في هذا الجيل ، إنما يأتي من باب الاستشهاد و المثال العموميين ، و ليس له علاقة بالتراتبية و الأفضلية الإبداعية ، إذ أن كاتب السطور من وجهة النظر الشخصية ، أعتبر أن الشاعر الراحل ( كزار حنتوش ) ، هو أهم و أخطر شاعر سبعيني في العراق ، بيد أن النقاد لم ينصفوه ما عدا الناقد المعروف حاتم الصكر و القلائل من النقاد و الكتاب ، و ربما عدم الإنصاف هذا ، متأت من نمط الصعلكة الذي كان عليه هذا الشاعر
و عليه ، أنصفته في حياته في الكتابة عنه و محاورته في الصحافة العراقية و العربية ، و ها أنا أعيد الكرة ، مؤكدا"مرة أخرى على إنصافه في مماته و من خلال – ثقافة المدى - و بالتالي ، من منا لا يموت؟