TOP

جريدة المدى > عام > قراءة في كتاب روسي عن تشيخوف صادر عام 1939

قراءة في كتاب روسي عن تشيخوف صادر عام 1939

نشر في: 6 أكتوبر, 2013: 10:01 م

اقتنيت هذا الكتاب في سبعينات القرن العشرين بموسكو في مخزن الكتب القديمة, وذهبت به مع مجموعة من كتب أخرى إلى دائرة البريد السوفيتي آنذاك لإرسالها برزمة إلى العراق, ولكن رقابة البريد لم تسمح بإرسال ذلك الكتاب بالذات لأنه صادر قبل عام 1945 , وبالتالي فا

اقتنيت هذا الكتاب في سبعينات القرن العشرين بموسكو في مخزن الكتب القديمة, وذهبت به مع مجموعة من كتب أخرى إلى دائرة البريد السوفيتي آنذاك لإرسالها برزمة إلى العراق, ولكن رقابة البريد لم تسمح بإرسال ذلك الكتاب بالذات لأنه صادر قبل عام 1945 , وبالتالي فانه يعد  ثروة    قومية لا يسمحون بإخراجها من الاتحاد السوفيتي حسب تعليمات ذلك الزمان, وهكذا اضطررت لأن أعيده معي, وأبقيته في موسكو وسافرت , ونسيته طبعا, وعندما عدت إلى موسكو بعد حوالي الأربعين سنة , وجدت هذا الكتاب أمامي, وكم شكرت – في أعماقي - الرقابة السوفيتية الصارمة آنذاك التي لم تسمح لي بإرساله عندها , إذ أن ذلك كان يعني ضياعه ضمن مكتبتي الروسية في بغداد ,  التي فقدتها مع الأسف الشديد.
بدأت أتصفح هذا الكتاب, وأقرأ فصوله , وقررت ان أقدم سطورا مختارة منه للقراء تعريفا به لأنه - من وجهة نظري - يستحق ذلك فعلا.
الكتاب من تأليف الباحث السوفيتي المعروف ديرمان , وعنوانه – ( انطون بافلوفيتش تشيخوف ) وتحت العنوان – عنوان ثانوي هو – ( صورة قلمية بيبلوغرافية – نقدية ), وأصدرته دار نشر ( الأدب الفني ) الحكومية السوفيتية عام 1939 في موسكو, ويقع الكتاب في 212 صفحة من القطع الصغير, وقد تم طبع 25 ألف نسخة منه. أوراقه أصبحت صفراء اللون, وتفوح منها رائحة ( كدت أقول عطر ! ) الورق العتيق, ويقتضي ذلك بالطبع تصفحه باعتناء دقيق وحذر شديد وحب عميق . أقدم للقارئ أولا فهرس الكتاب, وهو الآتي-
الأصول . العائلة / المدرسة الإغريقية والثانوية / الصبا والشباب / سنوات الدراسة الجامعية / بداية النشاط الأدبي / تشيخوف – طبيبا / سنوات العمل الخالية من الهموم / سنوات الانعطاف / تألق الإبداع / مرحلة ميلوخوفا / تشيخوف – مسرحيا / مرحلة يالطا. موت تشيخوف / ردود الفعل /أستاذيته ومهارته الفنية/ تشيخوف وعصرنا. وكما هو واضح من الفهرس, فان الكتاب يتناول مسيرة حياة تشيخوف وإبداعه منذ ولادته إلى وفاته , ويبدو من الوهلة الأولى انه كتاب اعتيادي يكرر المعلومات المعروفة عن الكاتب ليس إلا, ولكن القراءة الدقيقة للكتاب تشير إلى غير ذلك, إذ ان الباحث يستخدم مقاطع مختارة ومنتقاة من رسائل تشيخوف ونتاجاته ويربطها بمسيرة حياته بشكل ذكي ومنسجم جدا, ويبدو هذا واضحا من الصفحة الأولى للكتاب, عندما يتحدث الباحث عن مدينة تاغنروغ التي ولد فيها الكاتب, إذ يبتدئ الجملة بمقطع من رسالة تشيخوف إلى أخته عام 1887 التي يصف تلك المدينة كما يأتي – ( إنها مدينة وسخة وفارغة وكسولة وجاهلة ومملة ), ثم يتوقف الباحث عند أفراد عائلته ,ويبتدئ من الجد الذي كان قنّاً واستطاع ان يشتري حريته ويعتق نفسه, ويتحدث عن عائلة تشيخوف الكبيرة, والعوز المادي لرب العائلة, وكيف ان كل ذلك لم يمنع تشيخوف من إصدار مجلته الفكاهية العائلية عام 1875 ومتابعته للأدب المسرحي ( شكسبير وغوغول وغريبويديف وأستروفسكي وغيرهم) ومساهماته في النشاط المسرحي للمدرسة, ويعزز كل ذلك بمقاطع من رسائله أو رسائل أقاربه وأصدقائه, وبودي ان أشير إلى مقطع من رسالة تشيخوف إلى الكاتب بليشييف عام 1888, التي يوردها الباحث في نهاية فصل ( سنوات الدراسة الجامعية ) , وهي رسالة مهمة تحدد سبب عدم ارتباط تشيخوف بأي حزب سياسي أو حركة سياسية أو فكرية محددة في زمانه العاصف آنذاك واحتفاظه باستقلاليته وموقفه المتفرد والمتميز,إذ يكتب تشيخوف ما يأتي – ( إني أكره الكذب والإكراه في كل أشكالهما....إن الغباء والتعسف يسودان ليس فقط في بيوتات التجار, بل اني أراهما في العلم والأدب وبين أوساط الشباب ... ولهذا فان اقدس المقدسات هي – الجسم الإنساني والصحة والعقل والعبقرية والإلهام والحب والحرية المطلقة من القسر والكذب ... هذا هو منهجي فيما لو كنت فنانا كبيرا ), وينتقل الباحث للحديث عن بداية النشاط الأدبي لتشيخوف ويطرح موضوعا ما زال يمتلك أهميته لحد الآن وهو – متى بدأ تشيخوف بالنشر, إذ ان من المعروف انه بدأ عام 1880 ولكن المؤلف يقول إن هناك رأياً يشير إلى انه نشر أول محاولاته عام 1878, وان هذا الموضوع سيجيب عنه ( باحث المستقبل ) الذي يبدو أننا ما زلنا ننتظره لحد الآن , ويطرح الباحث هنا أيضا وجهة نظر شخصية تقول إن سنة 1882 هي أول سنة حقيقية في مسيرة تشيخوف الإبداعية, وهي مسألة ما زالت تثير النقاشات في أوساط مؤرخي الأدب الروسي بشكل عام والمتخصصين في دراسة إبداع تشيخوف بشكل خاص, وقد حاول الباحث إثبات ذلك الرأي الشخصي, وربط بين أفكار ومضامين قصصه القصيرة في تلك السنة وسمات وبنية قصصه لاحقا, ولا مجال هنا بالطبع للتوقف عند تفصيلات هذه الآراء المهمة والعميقة, وعندما ينتقل الباحث إلى فصل ( تشيخوف طبيبا ) يثير نقاطا في غاية الأهمية ترتبط بانعكاس مهنة الطب على طبيعة نتاجات تشيخوف الإبداعية , ويستشهد بما قاله تشيخوف نفسه عام 1899 حول ذلك – ( ان دراستي للعلوم الطبية قد امتلكت تأثيرا جدٌيا على نشاطي الأدبي, لأنها وسٌعت مجال ملاحظاتي وأغنتني بالمعرفة.... وإنني بفضل العلوم الطبية استطعت ان أتجنب الكثير من الأخطاء ..), ويتوقف الباحث عند نقطة مهمة في تاريخ دراسة العلاقات المتبادلة بين العلوم الإنسانية والعلوم الصرفة, ويشير إلى ان تشيخوف قد سخر من الرأي الذي يؤكد ان العلوم الصرفة تعرقل خيال الكاتب وتعيق انطلاقاته الفنتازية, وكتب بهذا الخصوص: إن الإنسان الذي يفهم الدورة الدموية يصبح أغنى وأعمق, تماما مثلما يصبح أغنى وأعمق عندما يفهم تاريخ الأديان أو قصيدة بوشكين المشهورة – ( أتذكر اللحظة المدهشة ..), ويختتم الباحث هذه الأفكار بالإشارة إلى قول تشيخوف حول هذا النقاش – ( إن معرفتي بالعلوم الطبية قد جعلتني معتمدا على الوقائع العلمية, وإنني أفضل الصمت وعدم الكتابة عندما لم تكن هناك إمكانية ذلك ..), مستشهدا بمثال غوته الشاعر , الذي يجسٌد في الوقت نفسه - بشكل هارموني رائع -غوته المتخصص بعلوم الطبيعة. ان الفصل الخاص ب- تشيخوف طبيبا في هذا الكتاب بحد ذاته يصلح ان يكون موضوعا مستقلا ومتميزا في مجال دراسة العلاقة المتبادلة بين العلم والأدب بشكل عام, وهو موضوع كبير ومهم في مسيرة البحث العلمي في العالم.
لا يمكن اختصار الفصول الأخيرة للكتاب أو التعبير عنها بكلمات وجيزة لأهميتها وعمقها, ولا تتحمل طبيعة هذه المقالة ذلك , إذ كيف يمكن ان نختصر سنوات الإبداع والتألق وخصائص مسرح تشيخوف ووفاته وردود الفعل تجاه ذلك في الصحافة الروسية آنذاك وسمات إبداعه وموقعه الآن في إطار عصرنا الحديث؟؟؟ ولكن – مع هذا – يجب القول ان النقد الأدبي الروسي عندها لم يستطع استيعاب الروح التجديدية لإبداع تشيخوف, ولم يستطع ان يتفهم ان تشيخوف هو كلمة جديدة في مسيرة الأدب الروسي والعالمي, وهذا موضوع يتطلب الدراسة العميقة والمتأنية طبعا , ويمكن لهذا الكتاب ان يكون أحد تلك المصادر في هذه الدراسات .الشيء الوحيد الذي يمكن ان نختصره هنا – هو ان هذا الكتاب ما زال مهما وحيويا في الدراسات النقدية حول تشيخوف رغم أنه صادر عام 1939 .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram