المهم الأصالة بالكتابة والمثابرة والإخلاص للنفس. فمن أجل كتابة قصة، لا يحتاج المرء أكثر من موضوع جيد ورغبة بالقصّ. امتلاك الإثنين هو موهبة نادرة طبعاً، ولكي يطور القاص صنعته "الفطرية" تلك، يحتاج المواصلة، الإخلاص للنفس، والثقة بالحواس. نعم الثقة بالحواس، هي شرط الإبداع في كل زمان ومكان. وأظن ذلك هو ما يجمع الكتُاب المبدعين مع بعض، لايهم اللغة التي يكتبون بها، وفي أي مكان يعيشون. ذلك هو طبعاً موضوع آخر، وأنا لست هنا بصدد تقديم عمل نقدي للقصة العراقية، بقدر ما أردت ذكر مثل واحد للحديث عن بدايات وتطور القاص عبدالستار ناصر، والإنسان!
بعد تلك الليلة التقيت بعبد الستار ناصر من فترة إلى أخرى، لكن بفترات زمنية متقطعة، على الأقل في السنتين اللاحقتين، حتى مجيئي للدراسة في جامعة بغداد عام 1974، وفي كل تلك اللقاءات التي هي شحيحة حقيقة، جمعنا بعض الودّ، (أصبحنا صديقين حميمين بعد إطلاق سراحه أولاً)، كما أنني بقيت أتابع ما يكتبه من تحقيقات صحفية في مجلة ألف باء، سواء ريبورتاجات رحلاته، أم تحقيقاته الجميلة، تحقيقه الصحفي عن مقابر بغداد مثلاً، إلى حين اعتقاله عام 1975 (على ما أظن) بسبب نشره قصة "سيدنا الخليفة" في مجلة الموقف الأدبي السورية، في زمن كان وحده نشره قصة في دمشق، العاصمة عدو رقم واحد لبغداد، دمشق، شكل تهمة لا تُغفر. ما أزال أتذكر مشهد دخول القاصة بثينة الناصري، شريكة عبدالستار ناصر (وإن لم تكن زوجته رسمياً آنذاك)، إلى مقهى البرلمان وقت العصر، وهي تستنجد بنا، تطالبنا بالخروج والتظاهر للمطالبة بإطلاق سراح عبدالستار ناصر، ولحسن الحظ لم يلب أحد منا دعوتها، خاصة وأن أغلب رواد المقهى منا، من المعارضين للنظام الديكتاوري، وهذا ما عرفته بثينة وإلا لما اختارت القدوم إلى مقهى البرلمان بالذات، المقهى الذي لم تطأه قدماها قبل ذلك اليوم. أقول لحسن الحظ، لأن القليلين من الذين جلسوا هناك، عرفوا أن بثينة الناصري، من أصل تكريتي، من عشيرة البوناصر كما يقول لقبها، وليست لأنها قادمة من مدينة الناصرية (كما ظن البعض من طيبيّ القلب الساذجين!)، وأن النظام البعثي الذي اعتمد على القبيلة هذه بالذات، كان من الممكن أن يسامح "المعارضة" بثينة، لكنه لن يرأف بواحد منا، أديب كردي أو أديب "شروﮔـي" قادم من الجنوب، الأكثر من ذلك، ليس من المبالغة القول، أن لا أحد يدري حقيقة حتى اليوم، إذا كانت بثينة جاءت في حينه مستغيثة برغبتها أم أن جهاز المخابرات ذاته، أرسلها لكي تورط الجالسين هناك بالتظاهر ضد النظام؟ لا أدري، كل ما أدريه، أن بثينة الناصري تحولت بعد فترة قصيرة، إلى بوق للنظام، خاصة في سنوات إقامتها اللاحقة في القاهرة. امرأة غير بثينة، جاءت تلقي خطبة نارية ضد النظام، بسبب شخص لم تكن حتى متزوجة منه، كانت انتهت إلى زنازين الإعدام، إذا لم تُرسل إلى أحد مواخير البعث في بغداد، خاصة إذا كانت المرأة هذه من أصل كردي أو شيعي أو سُني ولكن ليست قادمة من معاقل تكريت، إن ليس باسم السياسة، فباسم قانون العشيرة والتقاليد. البعث العراقي لم يكتف بالتدخل في حياة الأدباء، بل رسم لهم الحدود التي عليهم ألا يتعدوها أيضاً. وحتى هذه الحدود اختلفت باختلاف الطائفة أو المدينة أو القومية التي صُنف فيها الأديب. هناك من هو مسموح لهم بالتمرد، لكن بحدود. وهناك، مَن سيكون الويل له إذا تفوه بكلمة أو إشارة نقد واحدة!
يتبع
اعتقال عبد الستار ناصر وصراخ بثينة الناصري
[post-views]
نشر في: 8 أكتوبر, 2013: 10:01 م