يبحث المُعاينُ العراقي المبتلى بما يحدث يوميا، عن مخارج وموجبات قد تسعفه في معالجة ما يمكن معالجتُه، في ظل تعطل شبه كامل للوعي الشعبي، وتبدو المقاربة عميقة بين ما حدث ويحدث وبين ما يتوجب صنعه، لإيقافه، وهنا يخلص المتابع للشأن هذا إلى حقيقة كبرى مفادها ان الأمل ضعيف جداً في التغيير، وان المحنة آخذة بالاتساع، ذلك لأن السلطة نفسها تمارس دور العابث الواعي، الذي يجد ديمومته في الخراب، في جملة المشاكل اليومية التي يعاني منها الشعب، وبحسب وجهة نظر بسيطة فأن هذا هو لب المحنة، ساعة نجد أن الخطاب والأداء العامين للحكومة يعملان على المتوالية هذه.
لا أريد أن ألج من مفصل السياسة أو الأمن أو حتى الاقتصاد، إنما اجد أن الحراك الاجتماعي أصيب بمقتل كبير من خلال تدني مناسيب الثقافة فيه، ولنقل أن منظومة الفعل الاجتماعي المدني كلها هالكة، إذا لم نقل منهارة، حتى أني توقفت طويلاً معاينا في بطاقة الدعوة الخاصة التي أرسلها لي جاري الطبيب، الخصيبي، البصري يدعوني فيها لحضور حفل زفاف ابنه، أقول توقفت طويلاً لأني لأول مرة، ومنذ ربع قرن تقريباً أقرأ اسم العروس الكامل مقترنا باسم العريس في البطاقة، وانَّ السرور والفرح والبهجة ستدخل قلوب الأسرتين في آن، ساعة حضورنا الحفل، كانت البطاقة غاية في الأناقة، وكان الحفل موسيقى وأغاني عراقية تذكر بأيام خلت من عمر الزمن العراقي، لا بل أقول كانت لحظات خاصة اعادت لنا ما تساقط من أيامنا، حين كانت البهجة اغنية قصيرة تؤديها فرقة الخشابة التي تتخذ من داخل النخل مسرحاً، يقفز الصبية داخله حتى الصباح، مثل كرات من قطن ملون.
كتبنا الكثير عن الفجوة العميقة التي خلفتها السنوات العشر الماضية داخل النفس العراقية، وأكثر من ذلك، كتبنا عن سنوات الحرب والحصار وخلصنا إلى أن النفس هذه تعاني من جملة أزمات وهي مختنقة، بحاجة إلى تجديد هوائها، وأن متوالية الحزن لا بد لها من نهاية، فليبحث المعنيون بما يجب فعله من أجل التغيير لكن جهة ما، أي جهة لم تتنبه وظلت القطيعة بين قلوب العراقيين والفرح قائمة، حتى انتهت الناس إلى قناعات لا منطق يوحدها، قناعات تؤكد بأن الفجائع والكوارث شبه اليومية قدر عراقي، لا بد من تقبله، ذلك لأننا مستحقون ما يُفعل بنا، وكل ما حصل ويحصل لنا إنما مردّه إلى سوء أعمالنا حتى وجدنا بيننا من يؤكد بان آلة القتل لن تهدأ ما لم نهتد، ما لم نستغفر، ما لم نتضرع، ما لم ترض وتشبع. كان تبضيع مفاهيم كهذه سهلاً، ذلك لأنه مُعاضَدٌ مسنودٌ من كثيرين ظلوا يقفون على المنابر منادين بان الأرض المحصورة بين الرافدين العظيمين لا بد لها من أخذ هذا كله، لا بد لها من تجرّع كؤوس الدم هذه، لأنَّ كل الأرض كربلاء، كل الأيام عاشوراء.
ما أن صعدتُ سيارة الأجرة أمس، حتى حرك السائق مؤشر الراديو باحثاً عن إذاعة تبث مارشاً دينيا تعبوياً، -كانت هناك وفي إذاعة ما، أغنية لفيروز (أيه في أمل)- قلت له هل من مناسبة ما للحزن، فقال لا، لكنَّ الغناء حرام، وراح يعدد علي مناقبه وفتياه في القضية هذه وتلك، ولكي يمعن في تعريفي بما يجب عليَّ فعله صار يردد عليَّ موجبات الطريق وآداب الركوب وحرمة الخمر، وفساد عقائد البعض وما يتوجبُ على المرأة ارتداءه، ولأني معتاد على الصعود والنزول من سيارات الأجرة فقد كنت برماً من وعْظه وعِظته، قلت: بنى المسلمون الميسورون من الشيعة والسنة خلال السنوات العشر الماضية المئات من المساجد والحسينيات، وتضرع ملايين الحجاج والزائرين لله ولنبيه ولآل البيت من اجل خلاصنا مما نحن فيه، لكنَّ دعاءً ما لم يُستجب لنا، ألا تجد أن القضية فيها شيء لم نحسب الحساب له، قال: وكمن أعتقد بأني أملك الحل والعقد لما نعاني منه، نعم قل لي ما هو، قلت لنستمع لفيروز الآن وهي تغني : في أمل ... إيه في أمل. ...
أوقات بيطلع من ملل. وأوقات بيرجع من شي حنين.
لم يفهم صاحبي ما كنت أفكر فيه، لكنه ظلَّ محرجاً، يعتقد بأني هددتُ منظومة عقائده. ورغم ذلك: فيه أمل.
تقول فيروز: إيه في أمل
[post-views]
نشر في: 8 أكتوبر, 2013: 10:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
منتصر ابو سحاد
بارك الله فيك ياستاذ طالب لقد اصبت كما اصاب الجاحظ عندما اعترض على الحجر الاسود حيث قال اذا كان الحجر الاسود اسوده من فعل بني ادم لماذا لم يصبح عندما جاء الاسلام ودخل الناس فيه مع نبي الرحمة ابيضا فبقى اسودا واليوم كما افضت حضرتك كل هذه الزيارات وهذه الجو