يستخدم مفكر اوربي إستعارة مجازية جميلة وهو يحاول وصف العبور العظيم من زمان الأساطير الى عصر الحداثة السياسية التي أرست أساس الحريات والنظام الديمقراطي في الغرب، فيقول ان العملية كانت اشبه بنزع السحر عن شخص مسحور، وتحويله الى شخص متوازن. لقد بقي العالم محتجزا في لحظة شعوذة، او خاضعا ل"جنّي" وجاءت الحداثة، حسب الاستعارة الدالة، لتنزع السحر عن العالم وتحرره.
وهذه لم تكن اول استعارة من نوعها، اذ ينسب الى اسحق نيوتن انه كان يتأمل السماء فيجدها مثل سقف كنيسة او كاتدرائية، مملوءة بلوحات عن الجن والأبالسة والشياطين والآلهة وابطال الملاحم والأساطير. كانت اللوحات جميلة لكنها تحجب صورة الكون. حرك نيوتن يده ومسح بها السماء الملونة بالإيقونات والرسوم ورموز السحر والتعاويذ، فقام بمحوها وظهرت تحتها فجأة معادلات رياضية وأرقام وأسرار تفسر الأشياء بشكل علمي، فبدل ان يقول الكاهن ان إله المطر سكب الماء من السماء بدلاء اسطورية عملاقة، كانت معادلات الجاذبية تشرح كيف تتكثف الابخرة وتصبح ثقيلة لتنزل على الارض. لقد قامت الاسطورة بإخفاء معادلات الحقيقة، تحت صور الابالسة والعفاريت، وأزالها نيوتن نازعا "سحر العالم" وطاردا الجنّ والابالسة من العقل.
وبحسب هذه الاستعارة المعبرة، فإن نيوتن لم يتح له ان ينزع السحر من عالمنا القديم، واقتصر فعله على اوربا وأخواتها، وبقينا نحن ضحايا سحرة يتناسلون، ويرسمون جداريات عملاقة من الكذب يغلفون بها عقولنا. ورغم اننا نتقدم ببطء في زمان سياسي يكسر الاكاذيب ويبدأ عملية كشف تاريخية، لتاريخ من المهازل والخسائر، الا ان قسما كبيرا من ساستنا لايزال يحاول تنويم الامة بتعويذات وأساطير بشرية هذه المرة، ويحلم بصناعة كلكامش جديد، نصفه انسان ونصفه إله على هيئة ثور، ناطح محارب في مقدمة الجيش الذي سيفتح الامصار ويقرّ العدل والسلام!
ان حديث رئيس الحكومة عن نجله أحمد، يرتبط بورطة السحر ومنطقه، لان المالكي قفز على مجموعة اعتبارات سياسية مهمة، وحاول اعادتنا الى زمن السوبرمانات في الاساطير القديمة، موجها تلك الإهانة الكبيرة لجيشه أو جيشنا، إذ حين يشعر الجنرالات بالخوف او التردد، يلجأ الوالد الى "الفتى المعجزة" ابنه، فيهزم آلهة الشر بلا خوف ولا تردد.
هنا تختفي كل المعايير العلمية للادارة، وتتبدد اعتبارات الحداثة السياسية والحياة الدستورية، ونفهم ان سلطاننا، لا يحلم سوى بالدهاقنة الغابرين وخيّالة العصور الوسطى، وفي الحقيقة ووسط هزائمنا الاسطورية وموتنا المؤسف، فإن كل محاولات سلطاننا لاستعراض القوة تبوء بالفشل، فلا هو نجح في تجسيد صورة البطل السحري القادر، ولا هو أذعن لأصول السياسة الحديثة واحترم السلطات الاخرى ومراكز القوى التعددية، وهو ما كان في وسعه التخفيف كثيرا من مأساتنا. انه يفشل في اعتماد المنطق، كما يفشل في انجاح صيغة من صيغ اللامنطق.
وبالمناسبة فإن المالكي يتحسس من كلمة "منطق" كثيرا، ويبدو انه يكره نيوتن وأسلافه الاغريق، ومؤخرا حدثني وزير انه اعترض قبل سنتين على احد قرارات المالكي، وحين بدا الاخير مصرّا، قال له الوزير ان افتراضات الموضوع لا تبدو منطقية، وهي بحاجة الى مزيد من المراجعة، لكن رئيس الحكومة قال ببرودة اعصاب: ألا تعلم انني احب تجربة الاشياء غير المنطقية! ثم نفذ واحدا من اكثر القرارات اثارة للأسف.
هل نحن امام رجل تلون افكاره "التخيلات" التي تكتسب بمرور الايام، طبيعة الايمان الراسخ، والتي يقول خبراء نفسيون، انها تنتهي بالمرء الى "جنون العظمة" وانعدام اي شعور بالذنب او الندم؟
وعلى اي حال فإن الانهيار الروحي الاخير للمالكي منذ سخريته من الشهرستاني، مرورا بسرده بطولات احمد، دليل مرعب على ان مقود السفينة صار بيد رجل "مسحور" بالخيال التام والوهم الاقصى، وأن الاصلاح السياسي المتلكئ ليس ترفا يقبل التأجيل، لأنه لون حاسم من "نزع السحر" عن الطبقة السياسية وعن الشعب برمته.
"نزع السحر" عن العراق
[post-views]
نشر في: 12 أكتوبر, 2013: 10:01 م
جميع التعليقات 1
A.Weisi
المشكله الكبرى أن المالكي وماحوله عاجزون عن فعل (اصلاح)اي شيءوهم يمددون بقائهم في السلطه الى اقصى وقت ممكن,الشعوذه والمهزله هي سمة المجتمعات الأسلاميه المحافظه في كل مكان,فهذه المجتمعات هي في سبات منذ القرون الوسطى والتغيير(التطور) الوحيد هو العنف تشددت و