كان حصاناً جامحاً ثم أصيب بالعمى. لكنه يبقى حصاننا الأثير سواء كان جامحاً أم أعمى، فالأحفاد، أحفاد هذا الحصان، لن يتنكروا لهذا الجد الطاعن في الجموح والعمى، لأن هؤلاء لن ينسوا لمساتهم الأولى أثناء تربيتهم رقبة العراق الدافئة، المتعرقة، في استراحته النادرة بعد أن فكوا عنه الروابط الخشبية والجلدية وسحبوا العربة بعيداً، ثم قدموا له وجبة بسيطة من الغذاء، تشبه وجباتهم البسيطة، تشبههم، بينما كانت سيارة المس بيل تمر قريبة من المشهد وهي تركض بسرعة فائقة تصيب أنشط الخيول بالدهشة، بل الغيرة المختلطة بالغيظ: كان الحصان من بين أذكى المخلوقات وأنبلها واليوم لا يمكنه اللحاق بسيارة مثل سيارة المس بيل، في طريقها إلى القشلة لتتولى إدارة حصان جامح، عصي على الترويض، ولا يمكن توقع ردود أفعاله.
لم يقبل الحصان الجامح صورته التقليدية في أن يجر نفسه الثقيلة محملاً بإرث من الفزع والاجتياحات والدم والكتب الغريقة في النهر والسيوف التي لامسته، قبيل الحروب والغزوات، أو تلك التي ناشته أثناء قتال ما، أو تلك التي غارت عميقاً في خاصرتيه.. إنه حصان طموح، حالم، متوتر، أليف وشرس في آن.. كائن يوهمنا بالرضا لكنه، في سريرة نفسه، يرفض أن يظل أسير قوانين القطيع، فهو يتطلع، كثيراً، إلى أن يتخطى نفسه ويمزق تلك الصورة الثابتة: وسيلة نقل من مرحلة إلى أخرى، من زمن إلى زمن من دون أن يعتريه التعب لأنه، ببساطة، يتعب ويتعرق ويشيخ أيضاً.
لكن حصاننا، هذا، ذو ذاكرة خضراء: عندما ولد، لأول مرة، أطلق صهيلاً صغيراً لم نعرف تفسيره، عدا ما اجتهد به عراف عراقي مسنّ: الحصان الجنين يحمل جيناً جنيناً في دمه قوامه كراهية الإصطبل والحظيرة ليرنو إلى الحقول الخضراء المبللة بقمر أزرق يمطر على نجيل صغير.
الخيول لا تذهب إلى المدرسة ولا تنتمي إلى أحزاب ولا تشارك في تظاهرات شعبية.. إنها مخلوقات تتأمل ما يحدث أمامها بصمت ذي رنين، لكن ذاك الجين، بفعل تمارين الحقول الغارقة بأقمار زرق وحكمتها، صار قابلاً للتطور بفعل رعاية ذاتية ليدرك الحصان الشاب أن هؤلاء القوم الذين يخدمهم بتفان ونكران ذات لا يقدرون المعروف ولا يدركون قيمة ما يملكون، بل إنهم يجهلون، أيضاً، أن حصانهم قابل للتطور، مثل أي كائن حي آخر، وقابل للتدهور والنكوص مثل أي كائن حي آخر.
اجتمع ما تعارف عليه، أمس – واليوم – عقلاء الناس وأصحاب الحل والعقد ليفكوا عقدة حصان ليس بالخنوع لا يقبل حياة الحظيرة ولا أن يوضع في صندوق ويرفض أن يضع أحدهم على عينيه عصابة التوجيه لأنه يفضل النظر إلى جميع الاتجاهات على النظر باتجاه واحد.
.. ولأنه حصان ذكي تناوبت عليه أحكام ثقيلة، ممن يطلق عليهم حكماء الناس وأهل الحل والربط، ظل عصياً على التدجين حتى أنه كان يضحك بصوت عال مما يراه من خطل ما آتوه بحقه وما اقترفوه بشأن اتجاهات عينيه الكحيلتين، وقسوة برامج تجدينه الصارمة، لم يجد أولئك العقلاء جداً سوى أن يلجأوا إلى استخدام القوة كي يمضي بقية حياته تحت السيطرة والرقابة والعنف بعد أن وضعوه في قبو تحت الأرض، حيث لا ضوء ولا فسحة من حقل أخضر عدا ما يكفي من هواء وبرسيم، حتى فقدت عيناه بريقهما، بل فقدتا القدرة على البصر، بمرور الأيام الشديدة الحلكة.
خرج أخيراً، من قبوه، لكن الوقت قد فات.
هل من أمل في حصان آخر يولد؟
.. وإذا ولد.. فمن يتولاه خارج القبو المعتم، ليركض في الحقول الخضراء، ذكياً، وقوياً وطليق العينين؟
الحصان الجامح.. سيرة شخصية
[post-views]
نشر في: 21 أكتوبر, 2013: 10:01 م