TOP

جريدة المدى > عام > القاصّة سعاد الجزائري.. مساءات كينونة المرأة

القاصّة سعاد الجزائري.. مساءات كينونة المرأة

نشر في: 26 أكتوبر, 2013: 10:01 م

الشخوص في " الهمس العالي " للقاصّة سعاد الجزائري تعيش أزمتها الحياتية العامة والخاصة . وهي ملاحظة عامة على الكثير من قصصها .هذا هو الإشكال الجوهري المميز لهذه المجموعة . ولأنها أزمة انطولوجية تميزت بالتمركز والهيمنة وتكررت مراراً في القصص ، وكأن القص

الشخوص في " الهمس العالي " للقاصّة سعاد الجزائري تعيش أزمتها الحياتية العامة والخاصة . وهي ملاحظة عامة على الكثير من قصصها .هذا هو الإشكال الجوهري المميز لهذه المجموعة . ولأنها أزمة انطولوجية تميزت بالتمركز والهيمنة وتكررت مراراً في القصص ، وكأن القصة الواحدة غير كافية للتعبير عن هذا الإشكال الوجودي الكبير والضاغط .
وجدت في القصص القصيرة اختصاراً لامتحانات الكائن المستمرة والحاضرة دوماً ، وكأنها مستمرة بوجودها ولا تريد أن تتحول ماضياً . ربما لأن المرأة هي الحاضرة كلياً في القصص ، وكأنها سرديات أنثوية لغةً وموضوعاً . وتكرر حضور المرأة ، متأت من تمركزها الحقيقي في الحياة العامة أو العائلة ، وتلعب دوراً بارزاً في المجال الثقافي والفكري ،ولهذا تمظهرات عديدة في القصص . ونجحت سعاد الجزائري كثيراً في تحقيق قصص قصيرة مركزة جداً ، وبسرد شعري وشخوص لم تتجاوز ثنائية العلاقة بين الرجل والمرأة ، باعتبارهما عنصراً بنائياً مهماً له دلالة بالغة في القصص ، عبر تكرر ذلك ، كاشفة عن عيوب ثقافية ومعرفية بين الاثنين، ثنائية ملاحقة بالتباين الاختلافي العميق جداً . وتوفرت لهذه المجموعة عناصر فنية غير التقليدية والمألوفة في السرد القريب لها وأهم عناصرها البنائية العين السينمائية الحساسة ، وكأن القاصة تكتب سيناريو لفيلم قصير وصوره مركزة / مختصرة ، تشبع حاجة القاصة لها ، إضافة إلى الشعرية الفياضة في كل القصص ، مما جعلها منفتحة واسعة على تعدد المعنى ، وتنوع الدلالة ، كما ان القاصة دائماً ما تتركنا أمام حيرة التلقي وإشراكنا بطرح الأسئلة عن إشكالات الأنثى في كل القصص . لأن الرجل كان ملحقاً بها وكأن القاصة تستعيد دوره الذي كان عليه في بدء الحضارات .
كما تمكنت القاصة سعاد الجزائري من نحت صورها السردية بعناية بالغة وتحولت قصصها إلى تجسيدات واضحة على سطوح المرايا والصورة إحدى خصائص الشعر والسينما والفنون .
لم يكن حديثاً التعبير بالصورة ، بل هو مقترن مع الإبداع منذ اللحظة الإنسانية الأولى ، لكن الصورة ـتنوعت ارتباطاً مع تباين الأنواع والفنون ،والصورة في مجموعة " الهمس العالي " مرسومة بدقة عالية مع توصيف لحوافها ، وكأن هذه القصص القصيرة هي مشروعات سينمائية . والصورة هي الأوفر حظاً في تقديم الجسد ، لاسيما  أن القصص ذات عناية بالغة بالجسد وإعادة تشغيله بآلية فنية ، تجعله كاشفاً عن لغة محددة الوظيفة . لذا دائماً ما يتبدّى الجسد عارياً في الصورة وحاضراً فيها وكأن المتلقي يراه منعكساً على سطح المرآة ، على الرغم من أن القصة كشفت حضور المرأة على سطح المرآة التي كانت مزدوجة الوظيفة حيث قوة الاغتراب في حياة لم تساهم المرآة بإنتاجها ، وهذا النوع من الاغتراب هو المألوف في حياة الآخر وقد درسه العديد من فلاسفة جماعة فرانكفورت مثل دور كرايمر / وادورنو / وبنيامين ، واهتم بها علم النفس الحديث ، متمثلاً بالعالم لاكان ، شخوص سعاد الجزائري مغتربة غير متجانسة مع المحيط الخارجي الواسع ، ومتوترة بعلاقتها الثنائية مع الثنائي ، حيث العزلة والمخاوف والشكوك بكل ما يتمظهر عن علاقة قلقة ومرتبكة أفضت للانتحار . وهذه الواقعة هي التجسد الأوضح لحالة الاغتراب التي عاشتها المرأة في حياة وجدتها جاهزة ، أنتجها الآخرون وما عليها إلا القبول بها والانغمار بالمحيط ، لكن استمرار المفروض عليها ، هو الذي أعاد تشكيل كينونة المرأة المعروفة بشكل دقيق للقاصة . وهذه إحدى مميزات قصصها القصيرة التي قالت كل شيء دفعة واحدة ولكن بتتابع هادئ ولغة شفافة وصافية ، مثيرة للدهشة .
ذكرتني وظيفة المرأة في قصة سعاد الجزائري بمرآة الغريبة التي قال عنها الجاحظ في رسالته الخاصة بها ، بأنها ملازمة للغريبة التي في غير مكانها ، وتبدو دائماً مجلوة ونظيفة لكثرة ما تحدق بها ، لترى الحياة عبر ملامحها ومتروكات الزمن على وجهها . والمرأة الغريبة ، الممتحنة بوحدتها ، حتى مع وجود آخر معها ، تحدق بوجهها لتعيد قراءة تفاصيله ، كي تتعرف على ما تركته الحياة / والاغتراب على وجهها .
المرأة في قصص سعاد الجزائري غريبة ، غير متعايشة على الرغم من وجود مشترك للآخر معها . لكنه وجود غير مستقر ، مهتز / زئبقي ، مع غياب لوجود الآخر بالعلاقة اليومية ، بمعنى تضاؤل فرص معرفة الآخر والتعايش معه . والخسارة مضاعفة ، المرأة لم تستطع قبول الوافد معها وأيضاً الآخر ، المختلف ثقافياً . وضع المرأة معقد وهي تعيش تنافراً وتبايناً مع الذي معها . كما أن استعادات ذاكرتها شبه غائبة ، خصوصاً في القصص الخاصة عن حياتها في المنفى . ولا تكفي استعادة الماضي عبر قصتين مثلاً . لم تكن الذاكرة عبر سردياتها حاضرة وسط اختبارات العلاقة مع الآخر ، وهيمنة سرديات محيط جديد ، مغاير . لذا ظلت الهوية بطيئة الحركة وهي ـ أيضاً ـ كامنة ، لم تستطع التحرر ولو قليلاً من الانجذاب الكلي للآخر وتعدد الفضاءات . لذا لم اجد نوعاً من التبادل الثقافي في القصص ، وسيادة نوع ثقافي مفروض على الأنا ، مع غياب للجدل الهوياتي . وأعتقد بأن سعاد الجزائري منشغلة أكثر بقضايا المرأة وقصصها أكثر دقة بتوصيفها لإشكالات الكائن الأنثوي في محيط الآخر المنتج لأسئلة ، ظلت حاضرة في نفوس شخوصها، التي لم تستطع العثور على جواب ما ، من هنا نشأ شكل من التشظي الروحي والنفسي ، وتلاشي الفرص تماماً أمم ممكنات تحقق نوع من التبادل مع آخر وتواصل روحي / وثقافي كما في قصة الرنين الخامس .
فقدت المرأة في القصص دهشتها بالآخر ومحيطه وتحول المكان بكل سعته إلى مكان نمطي ، لم تنجح المرأة بإقامة علاقة مع آخر متوازنة ، حتى حركتها ، هي بدون هدف ، ودائما ما تتحرك باتجاه اللا هدف / اللامعنى ، لهذا لا تعرف حتى جغرافية الفضاء أو ما يوحي له من دلائل الخيبة ، الضياع ، والتهميش ، مع صعوبة الاندماج وقبول الآخر ، جعلت من الحياة صعبة ، والمرأة ضحية متكررة ، ترى الكينونة بدون معنى والحركة فيها لا تفضي إلى نتيجة ، هكذا تنتهي الوقائع السردية دائماً ، كل شيء نحو الفشل ، والماضي غائب عبر استعمالات العقل الماضي وسردياته مكانه الحمام وسحب السيفون ، هذا فعل غرائبي وكاف لترسيم إشكالات المرأة الانطولوجية في محيط الآخر ، وقصة " آخر ثانية عشرة " واحدة من القصص الخطيرة وكانت حاضرة في ستينات القرن الماضي في القصة العراقية والمصرية ولكن بصدمات أقل وأكثر هدوءاً . لا شيء يستحق الاحتفاء به وهو يدنو من لحظة غيابه ، مثلما لا تتوقع بأن ما يأتي هو أكثر سوءاً من الذي مضى . لذا لا شيء يستحق الاحتفاء ، والتشارك مع الآخر لممارسة الاحتفاء . إنه أكذوبة ثقافية ، أو هي ـ طقوس العيد ـ تمظهر لتخيّلات، وأحلام يقظة ، أحلام كوابيس ، لا تختلف كثيراً عن قصة " أماندا " الحلمية ، والمفترضة ، وصحيحة ، حيث تختزل هوية الكائن بفقدانه لكنيته ، وهذا أمر مثير للدهشة وهو أحد أسباب الاغتراب هناك .
هذه مقدمة عامة مشتركة بين القصص ، وسأحاول قراءة تفاصيل القصص في وقت قريب ، لأن مجموعة " الهمس العالي " تستحق القراءة الواعية والاحتفاء بها ، لأنها قدمت لنا ما نبحث عنه ونريده .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. علياء الجزائري

    عاشت اﻻيادي مبدعه دائما

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram