TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > عن صورة بغداد في البصرة والعالم

عن صورة بغداد في البصرة والعالم

نشر في: 26 أكتوبر, 2013: 10:01 م

 هناك من يريد أن يتحدث عن بغداد أخرى، يريد أن يسمّي بغداد من خارجها ، بعيدا عن متنها الأول، وبذرة تشكلها العظيم في عصرها الذهبي، هي الكرادة بداخلها وخارجها وهي شارع السعدون والمتنبي وشارع الرشيد وسينما النصر والمسرح الوطني. هي بغداد الكبرى بكرخها ورصافتها ومحطة قطارها ، قطار غربي بغداد. هي بغداد عاصمة الروح العربية وتاجها المحلى بفص الحكمة والفكر والبذخ والبطر، هي بغداد  قبل أن تتمدد أقاصيها طائفياً، هي الأجمل بدجلتها العظيم لا بأطرافها التي تتيبس تضييقاً وعنتاً، هذه بغداد التي نعني بحضورها كبيرة بين عواصم الدنيا لا التي تدعون زعامتها.
  من حضر فعاليات مهرجان المسرح الكبير الذي أقيم على قاعة المسرح الوطني وسكنت وفودُه فندق الميريديان ورأى بأم عين قلبه حشود الثقافة وحضور الجمهور لفعاليات المهرجان لا يخيب ظنه بقدرة البلاد على استعادة كبير عظمتها وبهي مجدها، لا يخيب امله بعراق آخر يعمل جاهداً على تغيير الصورة الأخيرة التي نمطته بها العملية السياسية القبيحة هنا، ولمن يريد أن يؤكد لأمانيه التحقق فلينظر إلى بغداد المدورة، ولا يذهبن ببصره بعيداً حيث تتشح المدينة بغير صورتها.
  كانت مداخل ومخارج مبنى المسرح الوطني تزدحم بالمئات من العرب والعراقيين المحبين والساعين لرؤية جوهر الحياة العراقية في رسالة تحمل صورة مقلوبة للنخب السياسية، النخب التي دأبت تتصارع داخل قبة كان يعتقد بأنها تمثل الطيف العراقي لكنها في الحقيقة لا تمثل إلا الجزء الأقل شاناً، كان محبو الثقافة غير معنيين بطائفة من حضر، ولم نجد بينهم من سأل عن هوية الممثل هذا والمخرج ذاك، ظلت البهجة عراقية بامتياز لتقدم رسالة أخرى ولتتحدث عن زمن وطني عراقي خالص، سيعيد الكرامة للوطن، يعيد للروح العراقية نسغها الطاهر النقي، خال من أدران الطوائف وفوضى الاقتتال وقبح الفساد، كانت صورة بغداد على المسرح الوطني وفي ميدان ساحة الفردوس وساحة التحرير وشارع الرشيد والمتنبي وامام تمثال عبد المحسن السعدون وفي حديقة الأمة وتحت جدارية فائق حسن وعند تمثال الرصافي وغيرها من العلامات الكبيرة هي الصورة الخالدة في الذهن العراقي والعربي والإنساني عموما.
  لا ينبغي لأحد أن يقزَّم بغداد من خلال النظر لأطرافها البعيدة إنما لينظر اليها من خلال قلبها الحي في الأماكن التي ذكرنا، ذلك لأن الطائفية والتشدد والتلاسن المذهبي القبيح لا دالة على وجودها هنا. كنتُ في حشد السائرين إلى شارع المتنبي، مثلما كنت في حشد الداخلين إلى المسرح الوطني مأخوذا بالخطى تجاه مقصد هو الموحد الجامع لكل الحاضرين هناك، من المتطلعين لبغدادهم في الأعظمية والكاظمية حيث يوحّد دجلة والجسرُ، القلوبَ والأرواح. في سوق المتنبي وعلى خشبة المسرح رأيت الناس تنأى بنفسها عن معاينة كتب الاختلاف والنكد والمباهاة بالمعتقد، رأيت الناس تسعى واثقة نحو معرفة كلية مدنية حضرية، حيث لا أحد يستنهض الخليفة أو الوالي قاتلاً، مثلما لا أحد يستعيد المقتول الإمام المختار شهيداً، ذلك لأن الذين دخلوا نهر الدم والبغضاء ذات يوم خرجوا منه نهائياً، حيث لم يعد الزمنُ الخطواتِ القهقرى، وانغلق إلى الابد شباك مظالم الماضي، بعد أن وضعت الصحف وجفت الأقلام وصار الانتفاع باليوم  حاضرا لا محاولة العيش بالأمس.
  نأتي إلى بغداد، نحن سكان الجنوب مثلما يأتي العرب والأجانب اليها، ولا نملك في قلوبنا صورة غير صورتها الخالدة في يقين الكون أجمعه، هي الازلية بأزلية نهرها وهي العظيمة بروحها الكبير فلا يظلمنَّ أحدٌ القلوب هذه، لا تستبدلوا بغدادنا ببغداد أرواحكم المريضة، ببغداد قبحكم وظلام نفوسكم ولا تشوهوا صورة الرشيد والمأمون والأمين وأم المستكفي والحلاج وأبي حنيفة وموسى الكاظم والشريف الرضي وأبي نؤاس وناظم الغزالي ويوسف عمر والرصافي والزهاوي وسواهم أكثر مما شوهتها كتاب التاريخ .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

التلوث البيئي في العراق على المحك: "المخاطر والتداعيات"

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram