هناك من يريد أن يتحدث عن بغداد أخرى، يريد أن يسمّي بغداد من خارجها ، بعيدا عن متنها الأول، وبذرة تشكلها العظيم في عصرها الذهبي، هي الكرادة بداخلها وخارجها وهي شارع السعدون والمتنبي وشارع الرشيد وسينما النصر والمسرح الوطني. هي بغداد الكبرى بكرخها ورصافتها ومحطة قطارها ، قطار غربي بغداد. هي بغداد عاصمة الروح العربية وتاجها المحلى بفص الحكمة والفكر والبذخ والبطر، هي بغداد قبل أن تتمدد أقاصيها طائفياً، هي الأجمل بدجلتها العظيم لا بأطرافها التي تتيبس تضييقاً وعنتاً، هذه بغداد التي نعني بحضورها كبيرة بين عواصم الدنيا لا التي تدعون زعامتها.
من حضر فعاليات مهرجان المسرح الكبير الذي أقيم على قاعة المسرح الوطني وسكنت وفودُه فندق الميريديان ورأى بأم عين قلبه حشود الثقافة وحضور الجمهور لفعاليات المهرجان لا يخيب ظنه بقدرة البلاد على استعادة كبير عظمتها وبهي مجدها، لا يخيب امله بعراق آخر يعمل جاهداً على تغيير الصورة الأخيرة التي نمطته بها العملية السياسية القبيحة هنا، ولمن يريد أن يؤكد لأمانيه التحقق فلينظر إلى بغداد المدورة، ولا يذهبن ببصره بعيداً حيث تتشح المدينة بغير صورتها.
كانت مداخل ومخارج مبنى المسرح الوطني تزدحم بالمئات من العرب والعراقيين المحبين والساعين لرؤية جوهر الحياة العراقية في رسالة تحمل صورة مقلوبة للنخب السياسية، النخب التي دأبت تتصارع داخل قبة كان يعتقد بأنها تمثل الطيف العراقي لكنها في الحقيقة لا تمثل إلا الجزء الأقل شاناً، كان محبو الثقافة غير معنيين بطائفة من حضر، ولم نجد بينهم من سأل عن هوية الممثل هذا والمخرج ذاك، ظلت البهجة عراقية بامتياز لتقدم رسالة أخرى ولتتحدث عن زمن وطني عراقي خالص، سيعيد الكرامة للوطن، يعيد للروح العراقية نسغها الطاهر النقي، خال من أدران الطوائف وفوضى الاقتتال وقبح الفساد، كانت صورة بغداد على المسرح الوطني وفي ميدان ساحة الفردوس وساحة التحرير وشارع الرشيد والمتنبي وامام تمثال عبد المحسن السعدون وفي حديقة الأمة وتحت جدارية فائق حسن وعند تمثال الرصافي وغيرها من العلامات الكبيرة هي الصورة الخالدة في الذهن العراقي والعربي والإنساني عموما.
لا ينبغي لأحد أن يقزَّم بغداد من خلال النظر لأطرافها البعيدة إنما لينظر اليها من خلال قلبها الحي في الأماكن التي ذكرنا، ذلك لأن الطائفية والتشدد والتلاسن المذهبي القبيح لا دالة على وجودها هنا. كنتُ في حشد السائرين إلى شارع المتنبي، مثلما كنت في حشد الداخلين إلى المسرح الوطني مأخوذا بالخطى تجاه مقصد هو الموحد الجامع لكل الحاضرين هناك، من المتطلعين لبغدادهم في الأعظمية والكاظمية حيث يوحّد دجلة والجسرُ، القلوبَ والأرواح. في سوق المتنبي وعلى خشبة المسرح رأيت الناس تنأى بنفسها عن معاينة كتب الاختلاف والنكد والمباهاة بالمعتقد، رأيت الناس تسعى واثقة نحو معرفة كلية مدنية حضرية، حيث لا أحد يستنهض الخليفة أو الوالي قاتلاً، مثلما لا أحد يستعيد المقتول الإمام المختار شهيداً، ذلك لأن الذين دخلوا نهر الدم والبغضاء ذات يوم خرجوا منه نهائياً، حيث لم يعد الزمنُ الخطواتِ القهقرى، وانغلق إلى الابد شباك مظالم الماضي، بعد أن وضعت الصحف وجفت الأقلام وصار الانتفاع باليوم حاضرا لا محاولة العيش بالأمس.
نأتي إلى بغداد، نحن سكان الجنوب مثلما يأتي العرب والأجانب اليها، ولا نملك في قلوبنا صورة غير صورتها الخالدة في يقين الكون أجمعه، هي الازلية بأزلية نهرها وهي العظيمة بروحها الكبير فلا يظلمنَّ أحدٌ القلوب هذه، لا تستبدلوا بغدادنا ببغداد أرواحكم المريضة، ببغداد قبحكم وظلام نفوسكم ولا تشوهوا صورة الرشيد والمأمون والأمين وأم المستكفي والحلاج وأبي حنيفة وموسى الكاظم والشريف الرضي وأبي نؤاس وناظم الغزالي ويوسف عمر والرصافي والزهاوي وسواهم أكثر مما شوهتها كتاب التاريخ .
عن صورة بغداد في البصرة والعالم
[post-views]
نشر في: 26 أكتوبر, 2013: 10:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...