تزداد القناعة لدى أوساط سياسية، قيادات وكوادر، بان رئيس مجلس الوزراء، لم يعد يولي اهتماما كبيرا لما يقول في خطاباته واحاديثه المتلفزة، ولا يأخذ في الاعتبار، ما يترتب على قوله وتقييماته، من ردود أفعال، ومواقف وغضب. ولتفسير هذه الحالة، تنقسم الآراء ب
تزداد القناعة لدى أوساط سياسية، قيادات وكوادر، بان رئيس مجلس الوزراء، لم يعد يولي اهتماما كبيرا لما يقول في خطاباته واحاديثه المتلفزة، ولا يأخذ في الاعتبار، ما يترتب على قوله وتقييماته، من ردود أفعال، ومواقف وغضب. ولتفسير هذه الحالة، تنقسم الآراء بين من يرى ان الرجل بات واثقاً من التصاقه بالكرسي، و"تشيّأ" معه، كما لو انهما توحدا. وبين من يعتقد انه لايرى بين القوى السياسية، والقيادات المقررة في التحالف الوطني، وفي الفضاء المعارض، او غير المؤيد، من هو جدير بالتصدي له، او على درجة من الوعي بالأمور وادراك للواقع الماثل وتعقيداته، بحيث يتجرأ على نقض أقواله وإبطال أفعاله.
ولا خلاف بين وجهتي النظر، من حيث الجوهر، فهما يستمدان الرؤية والتقييم من تجربة الحكم خلال الولايتين المأزومتين للمالكي، وتطور سلوكه المستخف والمتعالي على الآخرين، في جبهة تحالفه قبل غيرها. لكن ما يعمق نرجسية الحاكم، وربما حالة "الانفصام" في شخصيته، عاملان مترابطان، تجذرا في الحياة السياسية، خاصة في الولاية الكارثية الثانية. العامل الأول، يتمثل في غياب الأدوات الدستورية القادرة على لجم سلوكه، ووضعه في مواجهة المساءلة الأكيدة. وتتعدد عناصر هذا العامل، حيث انعدام دور مستقلٍ للقضاء، وتفكيكٍ للآليات الدستورية وفاعليتها في الرقابة، وتجريد مجلس النواب من صلاحياته التشريعية والرقابية، وتهميش مجلس الوزراء وإفراغه من صلاحياته كجهة عليا تنفيذية مقررة، وإبقاء وزارات وأجهزة أمنية سيادية في حالة شغور دائم ووضعها تحت سيطرة مكتب رئيس مجلس الوزراء والقائد العام، الى مسخ الهيئات المستقلة والاستيلاء على قراراتها.
في حين يتجسد العامل الثاني في غياب الرئيس، صاحب السلطة الدستورية العليا لطرح الثقة برئيس المجلس، وتكليف بديل له.
لكن هذين العاملين، يتظافران في عامل صاخب ليس اقل تأثيراً منهما، وهو ما فعله أبو احمد المالكي بدأبٍ وخرق يومي للدستور وتجاوز على القوانين وتعديات على الحق العام والحريات ونسف لكل المعايير والقيم الديمقراطية، ما أدى الى "مسخ" الحياة السياسية و"شلّ إرادة" القائمين عليها.
واذا امعنّا النظر ابعد من ذلك، فيما يدفع المالكي الى تسفيه الرأي الآخر، وعدم إيلاء أي اهتمام للتذمر او المعارضة لنهجه وسياسته وتجاوزاته التي لم يعد لها رادع، لرأينا انه اصبح أسير استقوائه بالعامل الخارجي، باعتباره الأساس، والفيصل في حماية سلطته وإدامة كرسيه. ويخطئ من يستخف بهذا العامل، ومدى قناعة رئيس مجلس الوزراء بمحوريته في وجهة العراق ومصيره.
( ٢ )
والعامل الخارجي يتحرك على محورين متناقضين، يلتقيان حول العراق، وفي دائرته المأزومة، على المدى القريب، باعتباره ورقة وساحة "للكيّ" وليّ الذراع، في الصراع الدائر على طول الساحة العربية والإقليمية. ورغم ان حصاد "الحقل"، يظل مخادعاً، بالمقارنة مع حسابات "البيدر"، اذا ما اعتمدت قاعدة الشراء على "الأخضر"، فإن المالكي يرى ان قدرته على المناورة بين رؤية ايران ومصالح الولايات المتحدة الأميركية، وبراعته "البدائية" في إدارة العلاقة مع كلٍ منهما، وكليهما معاً بدعوى الوساطة، ومراعاة المصالح الستراتيجية، تشكل دعامة لسلطته، وخشبة نجاة له، في الظروف الحرجة، وفي حالة اختلال موازين القوى الداخلية. ويزداد شعوره بالأمان، كلما بدا في الأفق، ما يجعل من العراق وساحته السياسية، "مَدرجاً" و"ساحة مكشوفة" للصراع بين الدولتين، الجارة الحليفة ايران، والصديقة الملتبسة الولايات المتحدة الأميركية. وهو يتماهى معهما متوهماً بدور "الشريك" القادر على حفظ التوازن بين مصالحهما، شرط الاهتمام بتعزيز دوره، وتمكينه من بسط سلطته وديمومتها!
وبهذا الوهم "النرجسي" يتجاوز الحسابات السياسية الداخلية، ويتذاكى عليها، ويُمعن في الاستخفاف بالعامل الداخلي، كشرطٍ أول، قد يقوى بعوامل أخرى، ومنها مواقف وتعاطفات القوى الإقليمية والدولية.
وينسى أبو احمد المالكي، لافتقاره الى النظرة المعرفية بأبعاد الصراعات الستراتيجية، وقواعد "لعبة الأمم"، وطابع "الهواية" و"الغواية" في ممارسته للعمل السياسي، ان "الشراكة" مع اللاعبين الكبار، تقاس بقامات الدول، وحصانتها وقدرتها على ان تكون اولاً "محوراً" في تعبئة الرأي العام في الداخل، وتكتسب حضورها في الخارج اعتماداً على ذلك، وليس العكس، كما هي حالة رئيس وزراء دولة فاشلة بامتياز، "معطوبة" على كل صعيد، مغرقة بالفساد، مهددة بالانهيار، بسبب السياسة العمياء المغامرة.
ومقتل السلطان المتغافل عن شعبه، في قناعته بالقدرة على اللعب على الكبار، وفقاً لما تعلمه في صغره من لعبة "طم خريزة"، التي توحي بإمكانية تسويق أنصاف حقائق ومعلومات، وأنصاف مواقف، إليهم. وكذلك ان يبيع على احدهما، ما يشتريه من الآخر، مع إضافة، قدر من "الزعفران" او "الفلفل" شديد الحرارة، حسب ما يعتقده ذوقهما. ان اي متابع مبتدئ لا يغيب عنه عمق التناقض بين مصالح كل من ايران الإسلامية الشيعية، والولايات المتحدة، الراعية الرسمية للإخوان المسلمين، والدول العربية الخليجية بوجه خاص، ولتركيا الأطلسية، إضافة الى مصالحها الكونية المعقدة والمتشابكة، التي لا يمكن اختزالها بسذاجة، في المشروع النووي الإيراني. وفي لحظة لقاء وتجاورٍ في المصالح، تصبح كل الأوراق قابلة للتبادل والتسوية، وباكستان النووية، مثال عياني لا يخطئ لمن يريد ان يتعلم. ومع ان الجمهورية الإسلامية الإيرانية، عصيّة، لا كما رخاوة باكستان وتحالفها الستراتيجي مع واشنطن، إلا ان دائرة المصالح الكبرى تضيق او تتسع، على قدر المكاسب ودرء الخسائر، وفي المسافة بينهما.
ان ايران على مرمى عصى من العراق، كبلد محاذٍ شديد الالتصاق، لكن الأهمية الاستثنائية، لا ترتبط بهذا الجوار والالتصاق الحدودي، وانما في النسيج المذهبي الديني "المتحاضن" من الطرفين، ليس بمعزلٍ عن المحاولات "الكامنة" للحصار عليهما، و"استنفاد" طاقة تكريس وجودهما في محيطٍ مسوّرٍ بالشكوك والهواجس.
وقد لا تكون القيادة الإيرانية كليّة الانسجام في رؤيتها وسياستها في العراق، وفي التعامل مع الأطراف المتصارعة فيه، داخل الحاضنة الشيعية نفسها، لكنها، دون أي شكٍ او وهم، موحدة في الحرص على عدم ضياع العراق، وتحوله الى جزرٍ قائمة على قنابل موقوتة، قد تصبح في لحظة تطور عربي او إقليمي، او في وضعٍ تكون فيه ايران منكفئة على إشكاليات وتوترات تستنفد إمكانية الالتفات الى العراق واحتواء حراكه السياسي والمجتمعي، خصوصاً وان مثل هذا الحراك والتناقض قد يأتي من داخل توازنات الطائفة الشيعية نفسها دون وعيٍ منها بالتدابير والنتائج.
ومن بين اهم التوجهات الإيرانية، التي يمكن ان تكون قد تعززت مع مجيء حسن روحاني الى الرئاسة، تلك التي ترى ان يكون العراق دولة مدنية، "متصالحة مع الدين والمذهب"، حاوية لكل المكونات، صديقة حميمية لإيران، دون تبعية مذلة. لكن المراهنة على مثل هذا النزوع او غيره رهن بمدى احترام القوى السياسية لمصالحها الوطنية، ومقاومة إغراءات الولاءات المصلحية، والاستقواء بها للحظوة والإخلال بالتوازنات وتجييرها لمصلحته الفئوية والحزبية، وركوبها مركب السلطة.
كما ان الولايات المتحدة، وهي المشغولة بمدارات ملفات شائكة، دولية وإقليمية، لا تنظر الى العراق، من الموقع الذي كانت تتعامل معه قبل انسحاب قواتها، ولا تربط الملف الإيراني وحلحلة العلاقة مع ايران، بالورقة العراقية، التي تخلت عنها قبل ان تبلى وتتبعثر قصاصاتها، تحت ثقل التراجعات السياسية والأمنية وتبدد الأمل من تحويل العراق الى نموذج "ديمقراطي" وواحة للتعايش بين أبنائه. انها لا تراهن على القيادة العراقية، الا اذا كانت عمياء، تنقصها البصيرة وبعد النظر، وهي ترى التداعيات والتصدعات التي تتعرض لها العملية السياسية، وتفكك هياكلها وقواعد المشاركة فيها، وتحوله الى بؤرة وخيمة لشتى التجمعات الإرهابية المتطرفة.
( ٣ )
يأخذ أبو احمد المالكي، على الأطراف السياسية، أنها لم تدعمه، ولم تقم بما تفرضه التزاماتها، كطرف مشاركٍ في الحكومة والعملية السياسية، في تجنيب البلاد والمجتمع المزيد من التشّطر والتشرذم. ومثل كل المقولات التي "تشقشقت" في خطابه، بل تتكرر في خطابات "أربعائه" وما يتيسر من خطابات اخرى في فعاليات يومية، يعود فيلقي اللوم على الآخرين في هذا التشظي الذي انتهت اليه الأوضاع السائدة، وتقوقع فيه المجتمع. انه لا يرى أية مسؤولية له في هذا الوضع، لا في الشرخ الذي تعاني منه العملية السياسية، التي شهدت مستوى واعداً من المعافاة النسبية قبل ان يولى امر الحكومة والدولة المتهرئة، ولا في مظاهرالتصدّع العميق الذي يعاني منه المجتمع العراقي ومكوناته، ولا في تعويم الدولة ومؤسساتها وإعاقة التقدم في البنى التحتية، التي افسد تربتها.
ان رأس السلطة التنفيذية، والآمر بلا شريكٍ في إدارة شؤونها، لا يتوانى في خطاب أسبوع النزاهة ، المعيب والمخجل، والمجرد من النزاهة (وهو يتحدث عن الفساد وعزوف الناس عن التفاعل مع الحكومة، وانشطار العملية السياسية، وانعكاس ذلك على المجتمع)، عن تبرئة نفسه، واتهام الآخرين بالجملة والمفرد، دون ان يوفر الشعب المُبتلى به، ليلصق به وصف "نقص التربية"، واستخدام "الحريات" في توسيع دائرة الفساد، وتحويلها الى "منصة للسطو على الآخرين"!
ولا يبقى أمام كل فردٍ طامحٍ بالستر والأمان من أبناء شعبنا، إلا ان يتساءل: من اذاً كان وراء الزحف على كل منجزٍ بسيط تحقق خلال السنوات الاولى من التغيير، وبإرادة ذاتية من مكونات الشعب، لا قياداته، ومن خرب بيئة المصالحة والتشارك في السلطة، عبر سلسلة الاستهدافات التي طاولت الشركاء، الواحد بعد الاخر؟ ومن تنصل عن اتفاقية أربيل الاولى، وأملى إرادة كتلته على التحالف الوطني، للحيلولة دون الاستجابة للمطالب الإصلاحية التي تضمنتها، ورقة أربيل الثانية؟
قد يكون من باب المناكفة او "تكويم" السلبيات على هذه الحكومة الرشيدة، إيراد كل بلايا الإقصاء والتهميش والتعدي، التي مورست من قبل المالكي شخصياً، ولم توفر لا طرفاً شيعياً حليفاً، ولا سُنّياً مستعداً للتعاون والتفاعل، ولا كردياً كان له القول الحسم في استيزاره وزيراً اول في ولايتيه الزاخرتين بالكرب والبلاء، بل دمر قوام الصحوات دون تمييز، وهي التي لعبت دوراً بارزاً في مواجهة الإرهاب وكسر شوكة المنظمات الإرهابية، والقاعدة في مقدمتها.
وبأي وجه، يريد المالكي، ان نمحَض حكومته، او "دولته" بفرادتها الضالة، ثقة اطراف العملية السياسية، وهو يواصل الإمعان في نهج الإقصاء والتهميش، والإصرار على تكريس سلطة مطلقة، لا ينالها، بعون الله ووعي الشعب، حتى ان جاء متأخراً، ويريد "حب الشعب" والشعب تائه في الظلمات، ومحروم من أية خدمات ضرورية، ومسلوب الإرادة، والبلاد تغرق في فساده وفريقه الحاكم، واللا دولة تشرف يوماً بعد آخر على الفوضى غير الخلاقة والانهيار؟
( ٤ )
يحاول المالكي ان يخفف قدر الإمكان من واقع الأزمة والعزلة السياسية "وغربة الشعب" عنه، وهو يختزل موقف العراقيين من الحكومة، بانعدام الحب بينهما، وهو لا يدري ان نهجه وسياسته وصمت شركائه عن الاستباحات وقلة صبر الناس، تحول من "عدم حب" الى نقمة وانفصام بينهما، وهي أمور باتت تسد الأبواب أمام أي جهدٍ او توافقٍ إصلاحي، اذ ان أوساطاً شعبية متزايدة، تنظر للحديث عن الإصلاح، كما لو انه مساهمة مباشرة في المسؤولية عما يجري، وتغطية على مثالبه، ورغبة كامنة لتخليصه من السقوط.
كما لا يُدرك، شركاء المالكي المقررون، مادام الصمت سيد الموقف، ان بقاء المالكي وفريقه في الحكم كل يوم آتٍ ، لا يعني سوى انفتاحٍ على احتمال افضله مرٌ، وأقربه خراب..!
يتبع في عددٍ قادم.. الإعلام "غير المنصف"!
جميع التعليقات 7
ابو وسام
السيد فخري كربم مقالكم محترم ورأيكم سديد أناالمواطن(الشيعي) المغترب منذ أكثر من عقدين كانت امنياتي واحلامي ان اقضي ماتبقى من عمري في احضان وطني ووسط أهلي واحبائي وهم يتنعمون بالديقراطية والعدالة الاجتماعية ومتحلين بروح المسؤولية للوطن والمواطن كما اناالآن
جبار ياسين
عزيزي فخري كريم ، يا من نعتني يوما بكلمة استاذ فرفضت لأني لا تصور نفسي استاذا على احد لكني اقول لك ايها الذي كان و مازال مفردة من مفردات تاريخي المركب من بضع كلمات : المالكي و غيره من عشاق السلطة والتسلط يعتبرون وجودهم في هذه المراتبيات من السلطة
خليلو...
حسنا فعلتم باستبدالكم صورة اليوم بالسابقات لانها كلها موحيات بالاكتئاب التي لاتليق بمن يتصدى لاخطر حملة ضد الفساد والفشل في ادارة دفة الحكم! صورة اليوم تعبر عن رجل واثق متفائل بالغد ....
farid
عزيزي الأستاذ كريم ممكن ينظر لنا نحن السياسيون ممقتون للسلطةالحاكمة وحسادا لها وطامعون بها ومن حق السلطة أن تتجافى وتتبلور حول نفسها..... ولكن أين حق الشعب ومكتسباته وثرواته وخدماته المهدورة, وأسألك بالله وأعتقد لم تجيب أين دور المرجعية التي أتحفو
ابو سجاد
اماقولك استاذ فخري ان لاينالها بعون الله والشعب لاياخي على الله فقط اما الشعب اتركه في سباته لقد غط في نومه العميق لايصحيه حتى لو زلزال من السماء فارجوك لاتعول عليه وفي بداية المقاله من يتصدى له فالرجل صادق ومتاكد لايوجد من هو جدير بالتصدي له وهذه السنة
alwan saad
شكراللاستاذفخري كريم على تحليلاته واستنتاجاته الموضوعية
علي العراقي
اخي ابا نبيل العزيز بعد ايام سيبدأ الشعب بالاحتفاللات واللطميات وسينسى وهذه هي المعضلة هم يبنون على هكذا شعب لانهم لم يجدواحرية ممارسة هذه الطقوس ويخافون ان يأتي غير المالكي فيمنعهم ويعيش المالكي رغم انف المتربصين ويريدون بقاء التخلف لان التقدميين والعلما