1
في كل البطاقات البريدية التي احتفظت بها ورتبتها بشكل منظم حسب تاريخها في دفتر أنيق، اشترته لي أمي لهذا الغرض، رأيت مدينة لا علاقة لها بالمدينة التي أعيش فيها، العمارة. ليس لأن بغداد عاصمة العراق وحسب، خاصة وأن الحديث عن العاصمة هو على كل لسان، بل أكثر من ذلك لأنها ضمت إلى جانب البنايات والشوارع القديمة، شوارع وبنايات حديثة أيضاً، أما الناس الذين رأيتهم على تلك الصور فقد بدوا لي قادمين من أزمنة أخرى، لا أدري إذا جاء ذلك من القصص التي واظبت أمي على روايتها لي عن المدينة مع كل بطاقة جديدة، أم له علاقة بقوة الصور التي تجعل كل من يراها، بغض النظر عن خلفيته الثقافية أو هويته، والسنّ التي هو فيه أو جنسه، يعرف أنها مدينة تشربت بالتاريخ الخاص بها، من كل السلالات التي حكمتها من كل ما عاش عليها من حضارات، من عوائل وأمم وممالك. ففي حس الطفل الذي ملكته آنذاك، لم أعرف أن جمال المدينة هذا الذي رأيته مطبوعاً على كل بطاقة بريدية أو معايدة، ولاحقاً على صور الأسود والأبيض وعلى تخطيطات ولوحات الرسامين، جاء في الحقيقة من غربتها عن محيطها. هي مثل كائن جميل يعشقه الجميع، يتنافس عليه عشاقه، عشاقها جاءوها من كل مكان، بعضهم تقرب منها بلطف، البعض الآخر بخشونة، ومن فشل في كسب حبها، تلفظه، ولأنها تلفظه، يقرر تدميرها، شيئاً فشيئاً وفي مرات استثنائية دفعة واحدة. الطفل الذي كنته آنذاك، جامع المعايدات، لم يعرف أن المرأة الجميلة تلك، بغداد، وُلدت غريبة هناك، أو ربما نعم، عرف تلك الحقيقة، وهذا ما جعله يتخيل المدينة، يمنحها صورة مع كل حكاية يسمعها من أمه ترويها على المدينة، صورة صورة، حكاية حكاية، بهذا التسلسل تشكلت بغداد عندي.
365 كيلومتراً تبعد بغداد عن العمارة، لكن مع كل قصة روتها أمي لي، كانت المدينة تتقدم خطوة لي، واليوم الذي أحصل فيه على البطاقة البريدية هو أسعد الأيام عندي، ليس لي أنا حسب، حتى أمي أراها تتغير، تضحك بأعلى صوتها، عند حديثها مع صديقاتها وهن يجلسن في ساحة البيت في الصيف أو في الصالون في الشتاء. كنت أغفر لها وهي تريهن المعايدة التي سلمها لها للتو ساعي البريد،جارنا عطوان. أنظرن، كم هي جميلة بغداد! تقول لهن أمي. لبرهة يتزاحمن عليها، يلوحن بأيديهن، (أحلفك بالعباس أبو فاضل)، أريني الصورة!
لا أعرف بالضبط المهن الأخرى التي مارسها أزواج صديقات أمي، ربما عرفت وظائف زوج واحدة منهن أو اثنين، أو ربما ثلاثة. ضاغي مثلاً، أم قاسم، زوجة الحاج مطشر، صديق أبي، المرأة القليلة الكلام، الرزينة، لكنها الأجمل روحاً وشكلاً بين صديقات أمي، ومرام ثانياً، جارتنا التي على عكسها صاحبة اللسان السليط، والتي لا تترك المجال للأخريات بالحديث. الأولى، ضاغي زوجها مثل أبي يملك سيارتي نقل على طريق بغداد -العمارة، الثانية أم ملك، زوجها ميكانيكي "فيترجي"، يملك سيارة دوج، ما أزال أتذكر أنها الدوج الوحيدة في الحي. باستثنائهن لم أعرف وظائف الأزواج الباقين، أو عرفت ونسيتها. لكن حتى ضاغي التي يذهب زوجها إلى بغداد، كانت تطلب من أمي أن تريها المعايدات، كلما جاءت إلى زيارتنا، وزياراتها نادرة. أمي تسلمهن المعايدة، فخورة، رغم أن أبي لم يكتب على ظهرها غير عنوان بيتنا، العمارة، محلة المحمودية، بيت عبدالرحيم المختار، ثم ليد بيت أبو نجم، وتحت العنوان جملة صغيرة: تحياتي للعائلة فرداً فرداً، رغم أن عطوان، يقول، كلما سلم المعايدة لأمي، لا حاجة لكتابة العنوان بالضبط، عليه أن يكتفي بكتابة العمارة فقط، وستصل البطاقة، في دائرة البريد وكلما أفرغوا أكياس البريد، ورأيت البطاقات البريدية هذه، أقول لزملائي موزعي البريد من محلات أخرى، لا حاجة لقراءة العنوان، إنها حصتي، لا أحد يرسل صوراً حلوة مثل هذه الصور لبغداد غير أبو نجم. النساء يعرفن ذلك أيضاً. كانت الصورة تبهرهن، ويبدأن بالحديث عنها، بصوت عال، وهن ينقلنها من يد إلى يد، أو عند بقائها في يد إحداهن، لتضعها وسط الحلقة التي جلسن عليها والأخريات يتطلعن في الصورة بفضول. هناك تعليقات. دائماً، هناك حكايات.
يتبع
عن البطاقات البريدية القادمة من بغداد
[post-views]
نشر في: 5 نوفمبر, 2013: 09:01 م