يحتفل العالم هذه الأيام بحصول المعمارية البريطانية ( من أصل عراقي ) زها حديد على جائزة جديدة باعتبارها أفضل سيدة أعمال أثبتت قدرة كبيرة ونجاحاً واضحاً في مجالها الذي تعمل وتتحرك فيه وحصلت على مكانة كبيرة ومميزة ومتفردة ، خاصة وهي تشق طريقها بنجاح قلّ نظيره وسط عالم كان حكراً على الرجال ، وأقصد هنا الهندسة المعمارية . حديد تستحق مثل هذه الجائزة بالتأكيد ، فهي ، إضافة إلى حضورها الشخصي والكاريزما التي تتمتع بها ، تتميز بقوة وغرابة تصاميمها التي تبدو من الاستحالة تنفيذها حين نراها لأول وهلة على الورق ، لكنها طوّعت كل تلك الغرابة إلى صالحها وأنتجت أعمالها بنجاح وسط ذهول الكثير من المختصين في عالم العمارة والتصميم . هي من حقها أن تشاهد الناس في أرجاء المعمورة وهي ترفع الكؤوس لتشرب نخبها وتلوح لنجاحها الذي بنته حجراً فوق حجر وخطاً على خط ، كما تصنع بناياتها ذات الأشكال الغريبة وغير المألوفة . النجاح جميل وممتع حين نراه في عيون الناس وإشاراتهم واهتمامهم . وكل نجاح له شروطه ومسبباته ، ابتداء بشخصية الفنان نفسه وموهبته وانتهاء بالمناخ الفني أو الإبداعي الصحيح الذي يتربى فيه ويطوّر موهبته . زها حديد شخص واحد ناجح يحتفي به الجميع ، بعد أن اجتهدت وشقت طريقها رغم كل الصعاب ، وهذه النتيجة مسألة طبيعية وعادلة .
هنا أستأذن زها حديد قليلاً ، لأميل رأسي بحنو ومحبة نحو بقعة أخرى لا أستطيع تجاهلها في هذا العالم ، أميله باتجاه بغداد حيث يقام معرض كبير في جمعية الفنانين التشكيليين ، يضم أعمال العشرات من خيرة الفنانين الموجودين داخل البلد ، ومع ذلك لا يحضره سوى الفنانين المشاركين وبعض معارفهم ، رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها الجمعية في التنظيم واستقطاب الفنانين للمشاركة ومساهمة هؤلاء في معرض وطني يمثل خلاصة تجاربهم التشكيلية . المسألة تدعو إلى المرارة بالتأكيد والحزن أيضاً على جهود فنانين لا يرى أعمالهم جمهور ولا تحتفل بنجاحهم مؤسسات الدولة ولا يرفع نخب حضورهم أحد .
هنا لا يمكننا المقارنة بالتأكيد بين حديد التي نالت فرصاً حقيقية تستحقها ووصلت إلى مكانة مرموقة ليس فقط بفضل موهبتها الساطعة ، بل أيضاً بسبب الناس الذين قدروا موهبتها ومنحوها تلك الفرص ، هذه المبدعة التي لو بقيت في العراق ( مع الأسف للتوصيف ) لكانت الآن ربما تراجع إحدى الدوائر للحصول على تقاعد زوجها القتيل بمفخخة ، أقول ربما . وفي نفس الوقت لو أعطيت لبعض الفنانين الحقيقيين الموجودين في العراق فرصاً مناسبة ورعاية جيدة ، لتغيّر وضعهم على خريطة الفن تماماً ، فالفن الكبير والمؤثر لا تصنعه المواهب فقط ، بل عوامل كثيرة مجتمعة . أكتب هذا الكلام ونحن نرى ونسمع كيف وصل الحال مع الفن والفنانين داخل العراق ، ابتداء من صعوبة أو انعدام تسويق اللوحات وليس انتهاء بالمحرمات والتابوات العديدة . كيف نطمح لاهتمام حقيقي بالفن ونحن نرى التحريم وصل حتى إلى بعض الدمى البلاستيكية التي توضع داخل فترينات المحال والتي تغطى بالملابس لغرض الدعاية والعرض ، فقط كي يرى الزبائن تلك البلوزة أو هذا البنطال بشكل أفضل . كيف نشعر بانفتاح حقيقي على الفن وهناك من يدعو إلى تحريم الرسم ؟! قبل أن نطالب العالم أن يحتفي بنا وبأعمالنا علينا أن نعيش في وسط صحي يحب الفن مثلما يحب الناس والحياة ، كيف تستطيع دمية من البلاستيك أن تهدد خلاصة ذائقتنا الفنية ؟ كيف نخشى لوحة لامرأة عارية ونحن الذين اكتشفنا الرسم قبل سبعة آلاف سنة ؟!!
بين زها حديد ومعرض جمعية التشكيليين
[post-views]
نشر في: 8 نوفمبر, 2013: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 2
ماضي حسن
مقالة رائعة شخصت الواقع المرير للفنان العراقي في الداخل , وتدهوره , واحباطه في نظر الجمهور الجديد, الذي تثقف على مناهج مغاير للإبداع الحر , وفعلا لو لا حضور الفنانين المشتركين لغرض متابعة عملهم المعروض , لخلت القاعة من زوارها واختلت بجدرانها فقط ,وان المع
محمود المعمار ( عمو محمود )
اننا لانحتاج فقط الى فناّنين عظام وجمهور ، بل ايضآ الى كتّاب وناقدين للفن يحملون القلم وضمائرهم يسطّرون بها هموم وواقع هذا الوطن . مقالة الفنّان ستّار كاووش نموذج راقي من التعبير عن مايعتلج في قلوبنا من لوعه .!