تتنافس في أيامنا هذه ليس الكتل السياسية فقط على الظهور،فمع كل موجة مطر سواء كانت زخاتها واهنة او قوية تجد المظلات اليدوية والثابتة وماسحات زجاج السيارات تتسابق في الوصول الى ذروة عملها ،بعد أن غيبها صيفنا الطويل ،رأينا ذلك انا والزميل طارق العزاوي اثناء توجهنا الى وسط بغداد باحثين عن مخلفات المطر في عاصمة الازمات.

صور الهروب

صور لاتحصى لمواطنين هاربين من نعمة الله (المطر) وكل حسب اجتهاده في الهروب،من لايملك مظلة مطرية ارتدى كيس نايلون جاعلا منه سترة واقية،اصحاب سيارات الحمل المتواجدون في ساحات منطقة الشيخ عمر لاذوا داخل سياراتهم بعد ان اغلقوا نوافذ سياراتهم.

رجل كبير في السن بعكازيه محاولا الوصول الى الجانب الآخر من الشارع وهو يقاوم السير وسيل الامطار التي جعلت من ثيابه قطعة من ماء دون ان يكترث وكأن لسان حاله يردد مع المتنبي (أنا الغريق فما خوفي من البلل).

راحة العربات وتعب العوائل

مررنا في بدايات سوق الشورجة التجاري وقبل ان ننعطف يمينا الى منطقة الشيخ عمر،كان مهند يسير بعربته باتجاه المرآب المخصص لمبيتها،بين مهند لـ(لمدى) ان هطول الامطار راحة للعربات وتعب لعوائلنا بسبب غياب الرزق،مضيفا ان اغلب تجار الجملة اغلقوا محالهم بعد أن تلقوا مكالمات تلفونية من زبائنهم في بغداد والمحافظات تشير الى عدم حضورهم ،والسبب الرئيسي كما يقول مهند هو المطر الذي يعيق حركة نقل البضائع فضلا عن كونه مساهماً رئيسياً في اتلاف العديد من البضائع التي تتاثر بالامطار.

الوحل لوَّن الملابس

المطر يتباهى بجموحه متبخترا غير آبه برزق محال تجارية أغلقت ابوابها،وباعة متجولون جعلهم يركنون الى خانة السكون ،وبيوت آيلة للسقوط وعلى الرغم من نزيف مزاريبها لم تسلم سقوفها من سطوة الغيث،وانت تسير في تلك الشوارع مجبراً على مشاهد مأساوية تحتاج الى مليون كلمة وكلمة للتعبير والوصول الى اخراج متقن وواقعي للقطات الحزن،الوان ملابس الطلبة واحذيتهم لم تعد على طبيعتها واتخذت من الوحل لونا رئيسيا لها ليس احتراما للطبيعة وأنما تحت بند مكرهاً اخاك لابطل،في بداية معايشتنا لمعاناة بغداد من الامطار كنا مررنا على ساحة الطيران،التي وجدناها خالية من المقاهي المكشوفة التي هي المقر الدائم لعمال البناء،وبالتضامن مع تلك المقاهي اختفى عمال البناء ايضا باستثناء عمال المجاري الذين يعتبرون ايام المطر موسم عملهم الذهبي ،لكون اغلب مناطق بغداد شبكات مجاريها شبه منتهية ويجب احالتها على التقاعد لكن للفساد الاداري احكامه في استمراريتها بالخدمة.

مصابيح السيارات والماسحات

مع دخولنا الى شارع الشيخ عمر ارتدت غيوم السماء ثياب السواد ،وكأنها تشارك العراقيين احزانهم في محرم،مصابيح السيارات تعلن حضورها عند الساعة الواحدة ظهرا،وهذا أمر غريب وغير مألوف،ولكن ما يجعله مألوفا انه في بلد اللامألوف الذي كل شىء فيه ممكن،المظلات بألوانها تصد المطر عن اصحابها،مصلحو السيارات اغلقوا ابواب محالهم ليتبعهم اصحاب محال المواد الاحتياطية،مطعم تازة مستجديا حضور الزبائن دون جدوى وكأنه يقول للناظرين من زجاج سياراتهم ان الامطار تازه وانقطاع الرزق تازه ،وانا اقول في داخلي واحزان العراقيين تازه ،مقهى القره غولي المعروف في الشارع لم يعد لـ(هيل قواريه) رائحة الأمس،ليس لخلو الزبائن من المكان بل لخشية صاحب المقهى على بضاعته من الكساد،ليقوم بتجهيز قوري واحد او اثنين بدل القواري التي يقوم باعدادها في الايام العادية بحسب قول العامل محمد كاطع الذي كان واقفا بباب المقهى.

في منطقة الشيخ عمر دخلنا احد الازقة وهو عبارة عن زقاق من وحل وماء،تتوزع على جانبيه البيوت والمحال ،وكلما اوغلنا في الدخول نحو العمق ،اوغلنا في الحزن على مشاهد الكارثة التي نراها،اطفال قادمون من المدارس وهم يتخذون من المطر طريقا ومظلة.

(نزار باسم) طالب في المدرسة الابتدائية حمل حقيبته على رأسه لتقيه من زخات المطر،مشهد يحيلك الى تأويلات كثيرة،منها هل فرط الطالب بحقيبة دراسته من اجل ان يحمي رأسه وملابسه،مثلما فرط بعض السياسيين الجدد بشعبهم ووطنهم من اجل مصالحهم ومنافعهم،لكن باسم قطع علينا طرح التاويلات قائلا ببراءة:احتميت بحقيبتي لانني لا املك مظلة مثل صديقي احمد ،وحتى لو كانت عندي مضلة ستسرقها مني عصابة فرحان بالمدرسة،لم يرد علينا حين سالناه عن المدرسة وعن فرحان وتركنا مهرولا في الوحل وعلى رأسه تاج المعرفة حقيبته الغالية.

أي شعب نحن؟

دخلنا محلة (137)زقاق 33في المنطقة التي تسمى بيوت الامة،واية أمة تناوبت عليها الأزمات وفي النهاية اجتمعت جميعها لتتنافس في خراب هذه المحلة التابعة لمنطقة الشيخ عمر،المحلة توحي للناظر لها من الداخل بأنها خربة من بقايا حروب وأعاصير وكوارث،كل شىء فيها يوحي الى خراب،البيوت تتسابق مع المحال التي في الشارع الرئيسي بعدد الأزمات وبصور الاهمال، الكهرباء معدومة تماما بعد ان سقطت محولة الكهرباء مع عمودها واصبحت جثة هامدة على الارض تبحث عن دفان ومقبرة،ومع ذلك فيها حياة،فهناك طفل يلعب مع صاحبه وسط الماء،وهنا محل لكهربائي سيارات ينتظر رزقه مع تزايد هطول الامطار،الاصوات تتعالى من محال لم تتجاوز اصابع اليد وبيوت تبحث عن رزق يملأ القدور مجتمعة على رأي واحد زبدته تقول(المطر خير)،وأنا مع كل الالم الذي اعيشه في تلك اللحظة انظر اليهم ساخر ومتعاطف وحاسد واقول(اي شعب نحن؟). 

اللاعب علي عدنان

يقول ياسين خليل محمود وهو وكيل مواد غذائية في محلة 137:عندما حصل التغيير كنا نحلم بحياة افضل وخدمات تجعل اولادنا ينعمون بالفرح والسعادة،ولكن ما نعيشه ومنذ عام 2003 الى يومنا هذا هي مآس وكوارث،ويبين محمود ان مشروع شبكة مجاري جديدة بدلا من مجاريها التي تعود الى عام 1954 سلمت الى مقاول ولكنه سرق الاموال وهرب،ويضيف ان المجلس البلدي ممثلا بالسيد عدنا ن كاظم غير آبه بماتعانيه المحلة وهو مسؤول في المجلس منذ العام 2003 الى يومنا هذا ولايمكن لاي شخص تغييره،وحين طلبنا من محمود ان يرشدنا الى بيت المسؤول البلدي للمحلة ،قال انه منذ شهور مقيم في تركيا مع ولده اللاعب علي عدنان كاظم الذي يلعب في صفوف احد الاندية التركية،العديد من المواطنين الذين تجمعوا قرب وكالة محمود طالبوا مسؤول المجلس البلدي بإيجاد حلول لهم او ترك المنصب لغيره ليخدم ابناء المنطقة ،بعد ان اثبت فشله في خدمة المواطنين وعدم اهتمامه بما يعانيه ابناء المنطقة من كوارث.

نحن منطقة كوارث

الجميع اعطوا العذر للمختار عباس لأنه بحسب قولهم ليس في يده شيء وانما الامور بيد عدنان كاظم،وطالب اهالي المنطقة التي تغيب عنها الكهرباء تماما بتوفير الكهرباء واعادة الاموال المخصصة لشبكة المجاري التي سرقت من قبل المقاول وتعبيد الشوارع والا سنعلن امام الجميع باننا منطقة كوارث وهي بالفعل ذلك كما يقول منذر وهو عامل في محل لتصليح السيارات.

ما احزنني جدا هو ان الناس كانوا ينظرون لنا وكاننا نملك الحل وان الله بعثنا من السماء لانهاء ازماتهم،فكانت توسلاتهم شاخصة في كلماتهم واحيانا في عيونهم التي تترجم للناظر الف حسرة وحسرة.

لايدوم إلا وجه الكريم

الحاجة ام رعد بلهجتها البغدادية الجميلة وبنبرة صوت تتلوى بين طياته حشرجات الالم وتداعيات المحنة قالت(يوم روح كللهم...لا يدوم الا وجه الكريم....يوم ككلهم ام رعد تكول صدام وينه...مو لكوه خاتل بحفرة الجبان...ومصير كل ظالم ان شاء الله مثل مصيره...الله يقبل بدون كهرباء ...من غير مجاري...الله لا يوفق الظالم)،تركت الحاجة ام رعد او بالاحرى هي من تركتني بعد ان ذممت علي في ايصال الرسالة للحكومة،وتوجهت صوب مدرسة العاقولي الابتدائية في الشيخ عمر،بعض الطلبة كانوا غير مبالين بالصور التي نلتقطها والبعض الآخر يرفض ذلك،والامر طبيعي جدا لأن هاجس الخوف والتوجس اصبحت من السمات الرئيسية في الشخصية العراقية ولمختلف الأعمار.

أنقذونا من الأزمات

احد الطلاب واسمه جاسم كما قال لي وكأنه يفشي لي سرا بأن اغلب المعلمين لا ياتون للدوام في ايام المطر وهذا ما يؤثر على مستوانا الدراسي،تركنا جاسم بعد ان رأى شرطيا من ضمن كادر حماية المدرسة متوجها صوبنا،طلب الشرطي هوياتنا وبعد ان عرف باننا من الاعلام طلب منا ان نلتقط له صورة مع الطلبة ليبين مقدار الجهد الذي تبذله الشرطة كما يقول،وبالفعل التقطنا له الصورة ولكن لم نفي بوعدنا لأن هناك صورا امضى وادق في المعاناة. تركنا الشيخ عمر الذي شب وشاخ على مأساة واتجهنا صوب الباب الشرقي على الطريق السريع ،وكل ما شاهدناه هو عبارة عن بلد ينزلق نحو الهاوية،دخلنا البتاوين لنجد الطلبة تنتقل من باب المدرسة الى الضفة الاخرى بواسطة بيك آب سائقها أب لاحد الطلبة تبرع مشكورا وتطوع مأجورا لإنقاذ بعض طلبة احدى مدارس منطقة البتاوين،وهنا يقف سؤال كبير على مائدة الأزمات يقول وبلسان الشعب :بعد ان دفعنا لكم مليارات الدولارات متى تنقذونا من هجمة الأزمات؟.