خلود اسمه وحضوره الدائم، شكّل ظاهرة لا يمكن ان تنساها الذاكرة العراقية. انه الشيخ الدكتور احمد الوائلي الذي تميز بصفات يندر ان نجدها برجل دين او خطيب. أهم ما يميزه، من وجهة نظري، انه كان متمكنا من أدوات مهنته يعرف كيف يختارها مثلما يجيد استعمالها. قارئ من الطراز الأول وله قدرة فائقة في استحضار النصوص والوقائع التي يستند اليها. حجر الأساس هذا، والذي لا بد منه لكل مبدع، توّجه الشيخ بصفتين مهمتين زادته تأثيرا في الناس وأحبوه: ابتعاده عن السياسة ونبذه للطائفية. ولهذا استحوذ على تقدير مريديه ومستمعيه، حتى من العلمانيين والمثقفين والمتعلمين ومن نسميهم اليوم بصنف التكنوقراط. كانت مجالسه الرمضانية او العاشورائية ممتلئة بهؤلاء خاصة عندما يحاضر في جامع الخلاني ببغداد.
أمس كنت استمع لمحاضر على إحدى الفضائيات العراقية له سطوة عليها، او قد يملكها برمتها، وقد تصدر الحاضرين جمع من الساسة الذين لو وضعتهم تحت المكرسكوب فلا تجد عند اي منهم خلية واحدة لها علاقة بمواقف الحسين لا من قريب ولا من بعيد. ليس هؤلاء مربط فرسي، بل المحاضر الذي اعتلى المنبر روزخونا.
لا ادري كيف يستسهل البعض مهمة اعتلاء المنبر الحسيني مستغلا موقعه السياسي او سطوته المالية فيعتلي مكانا ابسط ما يجب ان يتوفر في معتليه نبرة الصوت وعذوبة مخارج الحروف والقدرة على شد الحاضرين الى المعاني والمفاهيم التي يريد توصيلها. والتوصيل يحتاج الى موهبة ودراية قبل كل شيء. أصبت بشيء اكبر من الملل واقل قليلا من الدوار وانا أتابعه على مدى ساعة. دمدمت مع نفسي: أينك يا شيخنا الوائلي فمكانك خال والله.
الوائلي باحث من طراز رصين. رصانة عندما يمزجها بصوته المؤثر ولهجته النجفية الخاصة يجعلك تقطع أنفاسك أحيانا حتى لا تفوتك كلمة من كلماته. لقد وظّف خبرته الأكاديمية في البحث العلمي فتفوق على كل من سبقه او جايله او أتى بعده. يعرف كيف يبدأ محاضرته ليسلسلها على طريقة هرم مقلوب ينتهي رأسه عند نواعي زينب. ذكي في اختياراته. يتجنب أبيات النواعي الوصفية التي تتحدث عن زينب بل يختار منها ما يكون على لسان حالها:
انچان اتريدني انسه وبطل النوح وونيني اخذ ذكراك من كلبي وخذ صورتك من عيني
ايام الچنت وياك اناغيك او تناغيني
اشبيدي عايشـه وياي من ذيچ الأيام اشباح
يا ثغر الرضعت وياه الخوه من ثدايه امي
ويا وجه العله ملكاه يزول او ينجلي همي
اويا جسم الذي برداه ريحة والدي او عمي
اويا عشرة عمر راحت بعدها الفرح كله راح
ان لم يجد ما يعينه من النواعي، يؤلف ما يحتاجه منها بنفسه كالمقطع الذي ذكرته أعلاه. انه شاعر متمكن كما تعلمون.
الوائلي مدرسة لا بل سموه أمة ان شئتم. أمة بصوته الذي يأسر القلوب. وبقلبه المحب العابر للطائفية والطوائف. وبروحه التي زهدت المناصب والسلطة والسياسة. وبعقله الذي تغذى من أصفى منابع العلم وأنقاها.
شيخنا الوائلي، الف سلام وسلام عليك ايها العراقي الجليل.
الشيخ الوائلي .. مكانك خال
[post-views]
نشر في: 12 نوفمبر, 2013: 09:01 م