ان الأشخاص "غير الأسوياء" موجودون في كل البلدان والمجتمعات بلا استثناء، لكن السياسة التي ينقصها التدبير ووجود أشخاص غير أسوياء في السلطة، هو الذي يميز العراق في لحظته الراهنة، ويشجع شتى التصرفات الهوجاء والهمجية داخل المجتمع. وفي وسعنا ان نواصل القول بأننا حالة "شاذة" وأننا أسوأ بلد، والاستمرار بجلد الذات وترديد أننا "شعب همجي" حسب توصيف يريد ان يتصارح مع نفسه بقسوة لا نهاية لها، ووسط نقاشات خاصة بصوت واطئ، او غاضبة معلنة أحيانا. وهذا ما حصل بعد حادثة ضرب العامل في الشركة البريطانية وحكاية الراية التي أزيلت بقصد الاحتراز الأمني او نتيجة سوء فهم ثقافي!
وفي وسعنا ان نواصل اطلاق الاستنتاجات اليائسة حول المستقبل، من قبيل ان امتنا هذه ستبقى بلا حل.. شعبنا مشكلته تستعصي.. الأحزاب وأمراء الطوائف واللصوص هم الأقوى ونحن عاجزون.. الخ. لكن الاستمرار في قول هذا لن يخفف السوء او يصلح الحال، اذا تجرد عن محاكمة صريحة للقوى والقواعد الأخلاقية التي تشجع غير الأسوياء وتجعل صوتهم اعلى.
وأهم العلامات على أننا مجتمع يمكن تصحيح وضعه، هو استنكار للحادثة بدا واسعا ومؤثرا من أشخاص عاديين راحوا يخوضون سجالا في المجتمع ورصدنا جميعا أصداءه على فيسبوك وتويتر، الى جانب تصريحات ادلى بها وجهاء وناشطون في البصرة، وبيان مهم من مقتدى الصدر وصف الأشخاص الذين ضربوا الموظف البريطاني بأنهم "بلا أدب، ولا أخلاق" وأن البيت الحسيني بريء منهم.
أما العلامات التي تجعلنا نشعر بأن التغيير بطيء وأن "سلطة غير الأسوياء" لاتزال تحديا كبيرا، فهو شعور عام بأن الأقلية "الهمجية" فعلت ما فعلت وهي لا تشعر بأدنى قلق كما بدا في لقطات يوتيوب، من حساب او معاقبة. وهذا يعني ان غير الأسوياء في المجتمع، يدركون بالغريزة ان في السلطة أشخاصا يشبهونهم في الارتجال والتسرع ونقص الحكمة، يتعاطفون معهم ويتولون حمايتهم بشتى الأساليب. وأفضل طريقة مارسها "همجيو السلطة" لحماية همجيي المجتمع، هو الصمت الطويل وغياب التحقيق الرسمي في الحادث او عدم إعلان نتائجه رغم مرور أيام عليه، فبهذه الطريقة نسمح للمخطئ بترقيع خطاياه، ول"اللاقانون" بالتسيد على مصائرنا. ذلك ان ضرب الموظف البريطاني لم يكن يختلف عن سلوك غير سوي يمارسه كثير من "الهمج" ضدنا نحن أبناء جلدتهم، دون ان يجدوا "صادودا ولا رادودا".
ان البصرة كما العراق برمته، ليست بقعة بربرية تصيب الأجانب بالهلع وتدفعهم لملء قاعات المغادرة في المطار بالمئات كما يحصل منذ يوم الأربعاء. ولا زلت اتحدت مرارا وتكرارا، عن فرحي بالنتائج التي تطرحها شركة ملاحية مهمة من أميركا حول ممكنات الاستثمار في العراق، حيث دار قبل نحو سنة، حوار مع رئيس الشركة وهو مليونير من الغرب الأميركي، فأخبرنا بأنه سعيد لأنه كان يتجول بلا حماية تقريبا، على شاطئ البصرة، كما انه اخذ رحلة نهرية ممتعة في شط العرب، أتاحت له رؤية "الوجه البحري" لابي الخصيب حيث تغفو قصور القرن ١٩ وشناشيله على جرف النهر، والى جوار كل منها مرسى أنيق بين أشجار العنب والنخيل، تصطف قربه بضع سفن متوسطة الحجم.
مالك شركة الملاحة الأميركي، يقول انه كلف ٣ مراكز أبحاث مهمة لكي تدرس جدوى الاستثمار في العراق، فأخبروه ان العراقيين من اكثر سكان المنطقة تقبلا للأجنبي الذي يأتي للعمل والاستثمار، ولا سيما في البصرة حيث يعني مشهد السفينة ذلك التواصل الأبدي مع العالم المتنوع. وعند هذه النقطة يمكننا ان نعيد قياس درجة السوء، والثمن الرهيب الذي يدفعه أهلنا الطيبون، بسبب وجود أشخاص غير أسوياء بيننا، يشبهون أشخاصا غير أسوياء مسلطين على رقابنا، ويتسببون في هدر الفرصة تلو الأخرى. انها مفارقة رهيبة، لا ازعم اني نجحت في الإفلات من حبائلها، لكنها تؤكد لنا ان صوت العقلاء ليس صرخة ضائعة في البرية، بل محاولات لا بديل عنها، لتسوية ملف كل المختلين ومنعدمي السوية في هذه البلاد.
كم "همجيا" في العراق؟
[post-views]
نشر في: 16 نوفمبر, 2013: 09:01 م
جميع التعليقات 8
د. اثير حداد
استاذ سرمد اتفق معك في المقاله جمبها الا خاتمتها . فقي مقدمتها توصيف رائع لوجود اسوياء واشرار في كل مجتمع لكن السبب في تفشي ضاهرة الاشرار عندنا كامن في غياب دوله تطبق القانون وليس دولة القانون لاننا دولة احزاب ز مودتي واحترامي لك عزيزي
عهد الوارثين
ان الشعوب التى تعيش مبدء قديم تردد ان لنا تاريخ وورث عظــــــيم لكن الشعوب الذكية تترك التاريخ خلفها وتبدء بصنع حضارة الانسان ليس حضارة ان كنا نكتب وعلمنا العالم الكتابة ان الحسين علية السلام اكبر مثال والذى نعيش ايامة لم يستند الى عاطفة جياشة
ابو سارة العراقي
استاذ سرمد ليس المشكلة وجود بعض الرعاع هنا وهناك فهذا ديدن البلدان..ففي كل بلد هناك طالح وهناك صالح لكن المشكلة عندما يقوم القادة بتشجيع هؤلاء الرعاع ومساندتهم وسمعنا انه على الفور قرر المالكي طرد العامل الاجنبي دون التثبت من الحادث وللعلم ان بعد الشغب ال
HUSSEIN
اخي العزيز لقد اصبت الهدف وبدقه وياريت من يتعظ ويستفاد من هذا الكلام
ali modreic
الهمجية ليست لبسطاء الناس فقط فلا تنسى ياستاذ سرمد منظر الدبلوماس العراقي في عمان وهو يركل الاردني الوحيد المحصور وبعدها يعدل من رباطه وبدلته في تناقض غريب
ابو سجاد
يااستاذ سرمد العراقي مهان في هذا البلد لماذا تستنكر اهانة اجنبي العراقي يقتل و دمه يسيل ويهان كل يوم اتعجب لاستغرابك وكان العراقي مصانة كرامته اتعرف كم عددالعراقين اهين على يد هذه اللاحكومة في هذه الفياضانات فلاتستغرب هذه الافعال
ساهر
الغوغائيون يتكاثرون في البلدان غير المتعلمة كالعراق بالاضافة الى اخلفية القبلية لكثير من العراقيين الدين تعلموا منذ الصغر غلى عدم السيطرة على مشاعرهم والسير خلفها من سحل الوصي من قام بالفرهود من اشعل الخرب الطائفيى
احمد الهاشم
تحياتي وسلامي للمدى ولك شخصياً لأسف الشديد أن يحول البعض هذه المناسبة الإنسانية إلى مصدر قلق ووجع للآخرين. وبصدق أن الكثير من الشيعة( للأسف أقولها) يشعرون بالحرج من الكثير من هذه الممارسات التي شوهت حقيقة الدين فاصبح في عرف البعض وكأنها هي الدين. بمشاهد