يعتصر قلبي ألماً وحزناً عميقين، وأنا أكتب موضوع هذه الحلقة من زاوية "عمارة..عمارة". ومردّ ذلك الألم والحزن، هو مآل تلك العمارة الواعدة والجميلة، والحداثية، والاستثنائية في أهميتها في الخطاب المعماري المحلي، إلى ما يشبه الخراب: الخراب الذي يعكس "ذائقة
يعتصر قلبي ألماً وحزناً عميقين، وأنا أكتب موضوع هذه الحلقة من زاوية "عمارة..عمارة". ومردّ ذلك الألم والحزن، هو مآل تلك العمارة الواعدة والجميلة، والحداثية، والاستثنائية في أهميتها في الخطاب المعماري المحلي، إلى ما يشبه الخراب: الخراب الذي يعكس "ذائقة" بعض الناس، الذين استطاعوا بغفلة من الزمن، أن يكونوا "أصحاب قرار"، بمقدورهم أن يحيلوا، بقراراتهم الفجة والفظة في آن معاً، تلك العمارة العظيمة إلى حطام من بناء لا يستوي ان يكون مشيدا في بيئة مبنية نائية ومعزولة لا تدرك شيئا عن إنجازات العمارة المعاصرة، ولا تعلم عن مقارباتها التصميمة. نحن نتحدث عن عمارة "مشغل الهلال الأحمر" في العلوية (1949)، المعماريان: "ألين الأيوبي" (1921) و "نزار الأيوبي" (1920)، والذي يشغله الآن "مستشفى ابن رشد التعليمي للطب النفسي".
ونموذج مآل ما أفضيت إليه عمارة المشغل، ليس المثال الوحيد، في ممارسة سافرة، تستفحل الآن في المشهد المعماري المحلي وتترك أثاراً كارثية على شواهد منجز العمارة العراقية. ثمة ممارسة (لا أجد توصيفاً لها غير كلمة "مبتذلة")، تسعى جاهدة إلى تغيير اللغة التصميمية للكثير من المباني ذات الأهمية العالية في المنتج المعماري المحلي، وتحاول تشويه معالمه، بقرارات متخذة سريعا، من دون حتى أهلية مهنية تجيز لأصحاب تلك القرارات "سلطة" اتخاذها. وبديهي ان مثل تلك الممارسة ونتائجها الكارثية، تضحى قضية عامة، وإن بدت وكأنها قضية محض مهنية. بل وأتجرأ وأقول، إنها الآن، بإشكالياتها وهمومها، ترتقي لتكون قضية وطنية بامتياز. ذلك لأن، إقصاء ما يسمى بـ "تراكم الخبر"، وتجميع المعرفة والمعلومات، الذي يتجسد من خلال حضور الشواهد المعمارية المميزة، كفيل بخلق بيئة صالحة للتأخر، الذي يولد الانحطاط. وما نراه الآن، في بعض أوجه ما يحصل في المشهد المعماري المحلي، لهو هيجان سافر لتلك الظاهرة الفجة ، التى تسوغها وتديمها نزعة طاغية من مزاج شعبوي حافل به المشهد العراقي الآن، تاركاً آثاره المدمرة على المنتج المعماري وعلى روائع نماذج العمارة العراقية السابقة في عملية تشويه منتظمة. وهذا المزاج الشعبوي الجارف والمهيمن على المشهد، ليس فقط لا يريد ان يعلم عن طبيعة المنجزات المعمارية السابقة ولا يرغب في التعلم منها، وانما يتقصد في ضوء شعبويته المبتذلة اصباغ "قيمه" على المنتج الراهن وعلى عمليات "التجديد" التى تطول روائع المنجز المعماري العراقي المصمم من قبل معماريين عراقيين وأجانب، هو الذي كانت نماذجه فخراً للعمارة وفخراً للثقافة في آن.
وما حلّ بواقعة "تجديد" مبنى مشغل الهلال الأحمر في العلوية، لهو مثال نموذجي لممارسة تشويهية سافرة، جرت بصمت، وبعدم اكتراث من المهنيين العراقيين المهتمين بالشأن المعماري، بل وحتى "بتواطؤ" غير مفهوم من قبل الجمعيات المهنية والمؤسسات الأكاديمية التى يفترض بها الوقوف بوجه تلك الظاهرة، وفضحها، والحد من فعاليتها، وإدانة كل ما تمخض عنها. وما عدا بعض الكتابات المنددة بتلك الممارسة (أشرت، شخصيا، إلى خطورتها ونتائجها الكارثية في مقال طويل بعنوان "أوقفوا هذا الابتذال، أوقفوا تشويه العمارة" نشر على صفحة كاملة بتاريخ 2/8/2010، في صحيفة المدى البغدادية)؛ فليس ثمة من متابعة جادة وملموسة لوقف ممارسات تلك الظاهرة المستفحلة، والحد من عواقبها المفجعة.
اعتبر شخصياً، وأعتقد بأن كثراً من المهتمين يشاطروني الرأي، بأن كارثة حقيقية نزلت بالمنجز المعماري وبالثقافة العراقية على حدٍ سواء جراء عمليات التشويه والتغيير اللذين طالا عمارة مشغل الهلال الأحمر. فالمبنى المشيد عام 1949، والذي عد من قبل كثر اهم إنجاز معماري حدائي شهدته عمارة الحداثة بالعراق، بسبب نوعية لغته التصميمية المميزة، والتى اعتبرت، كما كتبت يوما عنها "بمثابة صدمة مفاجئة للمشهد الثقافي عموما والمعماري على وجه الخصوص. إنها لغة جديدة، حداثية، وغير مسبوقة في الممارسة المعمارية المحلية. من هنا امتياز عمارة المبنى وتفردها، العمارة التى ستؤسس لاتجاه جديد يشي بنقطة انطلاق مغايرة في مسار العمارة العراقية الحديثة. وهي بصفتها الاستثنائية هذه، تكون قد لبت على وجه اكمل، نداءات إرهاصات التغيير، المعبأ بها الخطاب الثقافي وقتذاك؛ والتي وجدت في عمارة المشغل تمثيلا ناجحاً وكفوءاً لها... إن هيئة المبنى البسيطة "بسهلها الممتنع" تشي بأهلية مهنية مقتدرة، الأهلية التى تولد الاجتهاد، الاجتهاد الذي بمقدوره ان يدهشنا بمنجزه الإبداعي، ويشعرنا بفرادة التصميم، ويقنعنا بالأهمية الفنية التي تستحقها، بكونها صيغة من صيغ المتن الإبداعي العراقي المرموق وقتذاك، الصيغة التي شكلتها قرارات تصميمية خاصة، اتكأت أساساً على مرجعية حداثية، نشد مصمماها ان تكون تأويلاتهما الشخصية لها مفعمة بالحس المكاني ومراعية لخصوصية سيرورات المجتمع الذي نشأت به تلك العمارة. إنها من دون شك "رونشان" العمارة العراقية الحديثة، بمعنى أنها تمثيل لمرحلة مفصلية في مسار العمارة المحلية ، وهي بهذا المعنى توازي أهمية مبنى مصلى "رونشان" Ronchamp الكربوزيوي، الذي عُدّ من قبل كثر أهم إنجاز عمارة الحداثة وفاصلها البليغ، والذي عنده تحديدا تشعب المسار المعماري لينهي في الأخير مرحلة الحداثة ويفتح أبواب "مابعد الحداثة " على مصراعيها!.” ( المدى، ملحق ورق، 20 12 2009). ان ذلك المبنى، الذي دعوناه بـ"رونشان" العمارة العراقية، استحال إلى سقيفة خربة، جراء قرارات غير مسؤولة صادرة على مايبدو من قبل إداريين شبة متعلمين أوكلوا مهمة "تجديد" المبنى إلى أفراد لا يمكن بأي حال من الأحوال ان يكونوا مختصين، بل وأذهب في ظني بان الذين "صمموا" وأشرفوا على التنفيذ، قد لا يكونون مهنيين محترفين البتة، ما لم تعلن الجهة المسؤولة عن أسمائهم وتدلنا عن مكاتبهم الاستشارية فيما اذا كانت لهم مكاتب؛ حتى تتم مساءلتهم مهنياً. فعمارة العمل المنتج فضلا عن شعبويتها الصارخة المبتذلة، يظل أسلوب تنفيذها ونوعيته لا يمتا، لا من قريب ولا من بعيد، إلى أي من مواصفات بناء معاصر ينتمي إلى القرن الحادي والعشرين!. نحن، إذاً، شهود لكارثة معمارية حقيقة وفق كل المقاييس: مقياس الجهل بالمستوى الرفيع الذي تمثله عمارة المبنى السابق؛ مقياس عدم إدراك أهمية المبنى السابق ضمن المنتج المعماري العراقي، ومقياس نوعية وممارسة أعمال التجديدات على المباني.
وأظل أتساءل، كيف استطاع أؤلئك الذين "أتحفونا" بمنجزهم التصميمي، ان يشوهوا عمارة المبنى السابق إلى هذا الحد من الابتذال؟ عندما زرت المبنى مؤخرا، صعقت وأنا أقف أمامه مندهشا ومستفسرا: من أين "استوحى" المصمم كل هذا القدر من السذاجات المعمارية وتفاهاتها؟، كيف "أعطت يداه" – كما يقول البغداديون- القدرة على تحويل واجهة المبنى المميزة، الحافلة بالمعالجات الفنية العالية والتناسب القدير إلى تلك البشاعات التي تنضح بها واجهات المنشأ الجديد؟؛ ومن أين "استقى" منفذوه مواصفات عملهم الشائن؟ لماذا لا يمكن المحافظة على منجزات حضارية، يمكن لها ان تؤسس لنجاحات معمارية مقبلة نفتخر جميعا بها، وتكون مفيدة لشاغليها وتثري ذائقتنا بالحس الجميل؟
ومصمما مشغل الهلال الأحمر هما الزوجان "ألين الأيوبي" (1921) الأمريكية الأصل والعراقية بالزواج، التي نالت شهادة الماجستير بالعمارة من جامعة هارفارد بالولايات المتحدة سنة 1946، بعد ان حصلت على درجة البكالوريوس بتاريخ الفن من كلية فاسار بنيويورك سنة 1942؛ وزوجها "نزار علي جودت الأيوبي" المولود في بغداد عام (1920) والحاصل على شهادة البكالوريوس في العمارة من جامعة كمبردج بإنكلترا سنة 1940، ثم درس الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ببيروت (1940-1942)، قبل ان يحصل على شهادة الماجستير في العمارة من جامعة هارفارد بامريكا سنة 1946. عمل نزار مهندسا معماريا في مصلحة السكك الحديدية (1947-1952)، ثم استقال متفرغا للعمل في مكتبه الاستشاري مع زوجته. صمما ثانوية الأمريكان بالمنصور (ثانوية المنصور للبنات حاليا) سنة 1956، وكثير من دور النخبة البغدادية، بضمنها دارتهم في الوزيرية (1952)، ودارة خالد القصاب (1971). أثرت تصاميمهم ذات المقاربة الحداثية، على مسار كثير من المعماريين العراقيين، وعدت تصاميمهم من أفضل نماذج عمارة الحداثة بالعراق. غادرا البلاد سنة 1969، إلى إيطاليا، ثم إلى الولايات المتحدة حيث يقيمان الآن في واشنطن العاصمة.