TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > البطاقات البريدية القادمة من بغداد

البطاقات البريدية القادمة من بغداد

نشر في: 19 نوفمبر, 2013: 09:01 م

3
قصص عديدة تلك التي روتها لي أمي، بعدد المعايدات، التي تسلمناها من أبي، بعضها تلف مع الزمن وضاع مع ضياع المعايدات، وبعضها بقي مع بقاء الذاكرة. مع بقاء بغداد. والأكثر رجحاناً مع بقاء أمي؛ لأنني في زياراتي الأخيرة لها، جلست معها وذَكَرّتها الحكايات تلك، أو ذكَرّتني هي بما نسيته منها. لولا إلحاحك، تقول لي، ربما ما تحمست لرواية القصص تلك أي خيال؟ تقول ضاحكة وهي تتأفف. أية حقيقة؟ أجيبها!أمي على حق، طبعاً، ففي بعض الأحيان، كان لابد لها أن تروي، حتى لو كانت تشعر بالتعب لسبب ما؛عمل البيت، استقبال الصديقات، أي سبب، أو حملها اللاحق، ليس لأنها وجدت في بعض تلك البطاقات البريدية ما يلامس قلبها، كإشارة حب من طرف أبي وحسب، بل ربما وجدت فيها تعويضاً عن حلمها بالذهاب إلى بغداد. لم تتوقف أمي عن الحلم هذا يوماً أبداً. كانت تحلم دائماً بالعيش في العاصمة بغداد. لا أدري إذا كان ذلك له علاقة بأنها عاشت طفولتها في مدينة الكوت (واسط) القريبة أكثر من بغداد (161 كيلومتراً)، كان أبوها، في ذلك الحين، يعمل قصاباً، قبل أن ينتقل ويعمل حتى وفاته مفتشاً في شركة التمور العراقية في البصرة – المعقل، في ذلك الوقت، في الكوت التي سيصبح اسمها في زمن الديكتاتور مدينة واسط، دخلت المدرسة وكانت تنجح دائماً بتفوق، وعندما أرادت أن تدخل معهد المعلمات في بغداد لكي تصبح معلمة، قرر جدي إعفاءها من الدراسة. قائلا: لا بنت عندي تذهب للدراسة وحدها في بغداد، هكذا، ولأنها لم تذهب إلى بغداد، كان عليها أن تتزوج أبي الذي كان عكسها، لم يكمل المدرسة الابتدائية، لأن مدير المدرسة طرده من المدرسة بسبب عمله فانوساً سحرياً، أطلق عليه سينما، كان يقف في تواليتات المدرسة ويدخل الطلاب لمعاينة أفلام النيجاتيف التي كان يحصل عليها من السيد تشارلز، المفتش الإنكليزي الذي كان يأتي أربع مرات في السنة، يعاين فيها العمل في مقبرة الإنكليز ويعطي الحدقجية مستحقاتهم، كان جدي رئيسهم. لكن ربما ليس هذا هو ما جلب نظر أمي لأبي، علاقته بالسينما والفنون عموماً، والتي لم تتوقف حتى اليوم، إذ كان أبي، ابن عمتها (أخت أبيها)، وكانت قد وقعت في حبه كلما زارت بيت جدتي في العمارة، كان أبي من قليلين في المدينة يملكون في حينه جهاز غرامافون، فأي فتاة لا يميل قلبها وتقع بالحب، إذا سمعت موسيقى محمد عبدالوهاب وأغاني أم كلثوم؟ ليس ذلك وحسب، بل كلما سألت أمي أبي عن الأسطوانات التي رأتها للمرة الأولى عنده، قال لها، إنه حملها من بغداد. بغداد حلم أمي بالدراسة في مدرسة المعلمات، حلمها الموءود، جاءها هذه المرة على شكل إسطوانة، قبل أن يأتيها لاحقاً على شكل بطاقة بريدية.
كان الشاعر بدر شاكر السياب، ابن البصرة قد جلس في مقهى في الكويت التي لا تبعد أكثر من 30 كيلومتراً عن البصرة، وسمع أغنية عراقية في جهاز الغرامافون، وساعة شدّه الحنين اليها كتب: "بالأمس جئت لي يا عراق في دورة إسطوانة". أمي كان بإمكانها أن تقول الأمر ذاته. أولاً وقبل زواجها: بالأمس جئتي يا بغداد في دورة أسطوانة. ثانياً: بعد زواجها، بالأمس جئتي يا بغداد على شكل بطاقة بريدية "معايدة". ولأن جهاز الغرامافون اختفى من البيت، باعه أبي وحل محله الراديو الكبير فيليبس، لم يبق أمامها في النهاية غير بغدادها التي عثرت عليها في البطاقات البريدية "المعايدات".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram