بغض النظر عن قضية راية الحسين التي قيل أن المهندس البريطاني مزقها او أراد تمزيقها، أو أن القصة فبركت لغرض سياسي من قبل مجموعة مدفوعة من جهة خارجية،الأمر الذي يحتمل أكثر من رواية. لكن، وبعيداً عن قدسية القماشة السوداء أو ما تمثله بالنسبة للعاملين الشيعة في الشركة النفطية، بل وحتى بعيداً عن التعصب الأعمى لمبدأ ما. لم اتمكن من إمساك دموعي وهي تنهمر، لم أقو على تحمل انقباض قلبي واختناقي بأنفاسي وأنا أشاهدُ عشرات الأيدي ترفع وتضرب بالعصي وقطع الحديد والمجرفة والفأس وهي تنهار على رأس وجسد رجل ذميِّ، غريب، أعزل، لا يفهم لغة القوم الذين وقع بين ايديهم، في شريط الفيديو الذي تناقلته الوكالات، احسست كما لو أن أحدهم قطع بفأس عملاقة آخر أشجار الإنسانية في روحي، ورمى بأفرعها الألف في وجهي الطفل، لا، ليس هكذا أبداً، ما شاهدته لم يكن سوى مقطع وحشي ،بربري من شريط مقتطع من فيلم رعب نسجه خيال مخرج تعفن قلبه فتقيأ أحشاءه على الشاشة، لأني لن أصدق ما حييت ما قام به هؤلاء، إذ من غير المعقول والمنطقي ان يفعل الانسان بأخيه الإنسان هكذا !!
سأُخْرجُ المقدس من الورقة الصغيرة هذه، وأتحدث بنفس إنساني خالص وأقرّب الصورتين، صورة الحسين الأخيرة في الطف على نهر الفرات ، صورة جسده قبل وقوعه من على ظهر فرسه، وقد أصبح غرضاً يرمى بمئات السيوف والسهام وتدوسه حوافر الخيل في المشهد الذي صورته لنا كتب التواريخ، التي تحدثت عن الواقعة المشهورة ،ومن ثم لأنتقل إلى صورة المهندس البريطاني الذي ظل يشاهد ومن خلال زجاج السيارة عشرات المهاجمين وهم يحملون الحجر والحديد والعصي والفأس والمجرفة ، ثم وهم يندفعون باتجاهه بآلاتهم تلك، وأصواتهم التي تتوعد وتشتم في المشهد الذي صورته لنا الكاميرا في واقعة الرميلة على بحر النفط. قلت سأخرج من المقدس لإنسانيتي، إنسانيتنا التي هزمت لحظتئذٍ، ما الذي يمكنني ان أقوله ؟ أنا عاجز حقاً، لأني لا أريد ان أعيد ترتيب جملة الامام علي الشهيرة : (الناس أخوة... ) ما عادت تشفع لي الآن، ولا أريد أن أستنهض قيم الفروسية، عن اية فروسية تتحدث ياطالب؟! أصبحت أكره وامقت كلمات مثل العربي شجاع، العربي كريم نفس، والعربي يكرم الضيف، أو المسلم من سلم الناس من لسانه ويده لأنه رقيق القلب، وأهل البصرة بسطاء طيبون، لا، لقد مزّق هؤلاء الموتورون مصاحف قلبي الكثيرة، كفّروني بقيم الكون، أعادوني لسلالة أهلي الوحوش، سلالتهم التي قدمت منها على ظهر ضارٍ ذات يوم.
بينما اكتب، فإن المطر يضفي على الطبيعة التي حولي سحراً، أوراق الأشجار خضر لاهبة، وأصوات الطيور- البلابل بخاصة- تمنح المكان جمالاً والقاً كبيرين، لكن الصورتين، صورة الحسين وهو ممزق الجسد، مسلوب الثياب محزوز الرأس، مع صورة المهندس، بذله الأبدي ، بوجهه المدمى، بكفيه وهما يصدان أو لا يصدان العصي والأيدي وأسياخ الحديد، صورة الانسان وهو يهزم امام اخيه الإنسان، صورته وهو يتوحش ويستذئب ويتنمر على بني جلدته .. لم تدعني الصور تلك على حالي، غيرت من طبيعة قلبي، قزّمتني امام نفسي، كنت ساعتها مستعداً لتقبل أية فكرة، بل لا اخفيكم احسست أن الدم الذي غطى وجه الرجل هو دمي ، أجل ،لم لا ؟ فقد تخيلت نفسي، أنا الغريب عنهم، البصري، العلماني الشاعر، ذو السابقة الشيوعية، الذي لم يدخل مسجداً أو حسينية منذ عشر سنوات، ولا يعرف احد منهم مذهبي، وقد طلبت من احدهم رفع بيرقه الأسود الذي وضعه على سيارتي، ترى ألا يكون مصيري كمصير الرجل، ألا يساور شعور مثل هذا أيَّ رجل آخر بينكم، ترى كيف كان يفكر الآلاف من العلمانيين وأبناء السُنّة والمسيحيين والمندائيين الصابئة من البصريين وغيرهم وهم يشاهدون فيلم الرعب الحقيقي هذا؟ ما الذي يحدث يا ناس؟ اكاد أختنق.
الجسدُ شريفٌ ممزق.. الوجهُ غريبٌ مُدمى
[post-views]
نشر في: 19 نوفمبر, 2013: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...