ها هو الرجل الذي كان - بتعبير (ووردزورث) (وليم ووردزورث (1770-1850) شاعر انكليزي يعتبر كبير شعراء الحركة الرومانتيكية الانكليزية)- رحالاً الى الابد عبر بحار التفكير بمفرده "، ففي هذه الدراسة المثيرة للاهتمام والذكية نراه
يلج بوابة سجن (نيوغــَــيت) الكبيرة والتي منها اقتيد الى حجرة كريهة الرائحة، ويجلس الى مائدة ويدوِّن ملاحظات من سجين معتل ومهزول، اما الزائر فهو (اسحاق نيوتن) اعظم عبقري في العلم في ذلك العصر او أي عصر آخر وهو يصغي الى الشهادة التي يهمسها المشارفون على الموت، وقد نلاحظ الشدة، بل التركيز الشديد الذي يبديه في كل نواحي حياته. وكان (نيوتن) – بحسب الظاهر - خياراً غريباً ليكون قيـّـم دائرة سك النقود ومن ثم رئيسها في ربيع عام 1696 حيث كانت هي الجهاز الذي يتحكم بـسك النقود وتداولها في ارجاء المملكة (المتحدة)، وقد كان قبل ذلك اكاديمياً لمدة حوالي (30) عاماً وله منزل في كلية ترنيتي في كمبرج، وفي سعيه وراء اليقين الرياضي (اي المتعلق بالرياضيات) يبدو انه لم يكن لديه اهتمام بالعالم في الحياة اليومية فقد كان شغوفاً فقط بتفانيه في التجربة والملاحظة، اذ سمنت قطته من الوجبات التي كان ينسى تناولها فيما كان منشغلاً باحتسابات الارقام. وفي أيام الطاعون عام 1665 انسحب من كامبرج الى مزرعة عائلته قرب (غرانثام) حيث – حسب تعبيره – كان "يتدبر الرياضيات والفلسفة اكثر من اي وقت بعد ذلك "، وفي هذه الفترة قد يكون او لا يكون شاهد التفاحة تسقط من الشجرة ومع ذلك فإنه من الصحيح بما فيه الكفاية أنه في تقاعده الاجباري استنبط المبادئ الاولى لـ (الرياضيات الاساسية) الخاصة به، ودفعته التفاحة ببطء نحو النظرية الثورية للجاذبية الكونية وتجاه صيغة عامة للقوى المحركة السماوية، فقد جعل الكون رياضياتياً)، وجعله سهل الانقياد للقوانين البشرية، ولايزال العلماء الامريكيون في وكالة ناسا يعتمدون على حساباته. وفي سن السادسة والعشرين اصبح بروفسوراً في الرياضيات في كامبرج اذ كان ذلك منصباً فاخراً بالنسبة لشاب يافع مع انه – كما قال احد معاصريه – كان غالباً ما يتلو محاضرته على مدرج خاو ٍ، وفيما كان مقيماً في الجامعة كتب تلك المبادئ وهو عمل مهيب برغم صعوبته بحيث ان (ليفينسون) يصفه وصفاً منصفاً بأنه " ملحمة الجاذبية " والتي فيها يطوف نظر (نيوتن) المحدِّق من حركة ريشة او قذيفة مدفع الى الحركة الاعظم للسماوات، فنظريته عن الحركة والجاذبية أذهلت العالم او على الاقل أذهلت منه ذلك الجزء من العالم الذي يستطيع فهم معادلاته، ومن المؤكد ان بعض المردود (الجائزة، المكافأة) المادية كانت ستتوفر له ربما حتى في لندن. وواتته الفرصة عندما طـُـلـِـب منه تحويل ذهنه الجبار باتجاه معضلات النقود وتحديداً باتجاه تدفق العملة الفضية من انكلترا الى فرنسا وهولندا حيث كان بإمكانها ان تبتاع بشكل متناسب ذهباً اكثر، بالاضافة الى ذلك كانت العملة القديمة مغشوشة الى حد كبير بمعدن خسيس بحيث انه لم يكن بإمكانها عملياً ان تشتري شيئاً، وكان حله هو (النيوتنية) البسيطة، فيكتب (ليفينسون) " كان بالإمكان فهم النقود كطرف في معادلة، كفكرة تجريدية، كمتغير يتم تحليله رياضياً ". ولكن النقود كانت دائماً في باله، فلم يكن (نيوتن) ببساطة مفكراً مجرداً بل كان صاحب مهنة وعالماً تجريبياً، وقد أنشأ أفرانه الخاصة به لاجل عمله الكيمياوي وصنع المناظير (التلسكوبات)، كما كان لديه اهتمام عملي بالنقود، ففي كامبرج كان قد انشغل بما كان يـُـعرَف بالربا – وهو إقراض الاموال مقابل فائدة – وفي غرفه في الجامعة كان يحتفظ بصندوق جنيهات انكليزية قرب النافذة كـامتحان لأمانة العاملين معه. على اية حال كان لديه اهتمام جامح بالمعادن وغرام بشكل خاص بالذهب، وطوال حياته تتبع علم – او فن- الكيمياء، وفي احد دفاتر ملاحظاته خربش عبارة " بذر الذهب في الارض: الموت والنشور"، اما في غرفته في كلية ترنيتي فكان قد أنشأ لنفسه مختبراً والذي فيه سعى الى "المسألة الكبرى"، و(ليفينسون) يدعو (نيوتن) "اكثر الكيميائيين حنكة ومنهجية في التاريخ". وهكذا جاء الى عمله في دار سك النقود وهو مؤهل تماماً من كل النواحي، وقبل وصوله كانت الدار مؤسسة نموذجية من مؤسسات القرن السابع عشر اي ينخرها الفساد، وأي مكان أفضل لعرض الرشاوى وقبولها من المكان الذي يتم فيه صنع النقود نفسها بشكل حـَـرفي؟ وكان (نيوتن) على وشك تغيير كل ذلك، فقد أنشأ فرناً جديداً وأمر بآلات طباعة وسكـّـاكات دوّارة وأجرى دراسة "الوقت والحركة" على موظفيه الـ (500) محتسباً بدقة ما كان المطلوب منهم عمله خلال الدقيقة. الا ان (نيوتن) كان مسؤولاً كذلك عن اقتفاء اثر ضاربي العملة او مزوري النقود، وفي تلك النقطة من تاريخه يظهر (ويليم تشالونر)، الرجل الذي اصبح خبيراً في الفنون الجميلة الخاصة بالتزوير، وكان انتهازياً مجازفاً بطراز القرن السابع عشر، وهو قروي يجتذبه الى لندن أريج النقود
تفّاحة نيوتن
نشر في: 20 أكتوبر, 2009: 06:36 م