تعلمت من أخيار المدينة التي نشأت فيها ان الأشرار لا احترام لهم. كان شائعا عند أهل "الزبيدية" ان من يسرق او يعتدي او ينال من اعراض الناس سيواجه بنبذ اجتماعي شديد لا يترك له خيارا غير الرحيل عنها. حتى العشائر كانت لا تحترم اشرارها وتعمد الى "كسر عصاهم" ان لم ينفع معهم نصح وارشاد. لعل تلك الأعراف قد أسهمت في إرساء ركائز الخير وأهله في ذلك الزمان.
اليوم أرى ان تلك المواقف الاجتماعية اما غابت او انقلبت الى ضدها. لن أبحر في الأسباب بل أحاول قراءة المشهد المقلوب دون تحليل تاركا للقارئ اللبيب فسحة للتأمل:
في لندن كان هناك شاعر لم اسمع اثنين اتفقا على انه يجيد قول او كتابة الشعر. الاصحاب والخلاّن الذين اعرفهم يسخرون من ابياته الشعرية ومن شدة مدحه لنفسه و"تصفيطه" لروايات على لسان أناس، بعضهم مات، قالوا عنه بانه " قد اسمعت كلماته من به صمم". لكنهم عندما يقيم أمسية شعرية لا يتخلف أي منهم عن حضورها! ها يابا شو رايحين لأمسية الأخ؟ الجواب يكاد يكون واحدا بينهم: يمعود غير حتى نجفي شره! اعتراف صريح بانه ليس لا فقط يجيد الشعر بل هو شرير أيضا. مقابل ذلك هناك شاعر لا غبار على شعره او اسمه لكنه طيب لا يؤذي أحدا. النتيجة: افضل أمسية له لا يحضرها غير عدد لا يتجاوز أصابع اليدين. هذا هو قدر الامام "الما يشوّر" كما اعتقد.
عراقي آخر في احد بلدان المنافي صارت الأرض الغريبة تصيح الغوث من شره. يسب الناس. يطعن الاعراض. يكذب على الرايح والجاي. يدعي ما ليس فيه. يتحدى ارسطو وافلاطون وسيبويه وهو لا يميز بين التاء المربوطة والهاء. يصفقون له عندما يحضر بينهم ويلعنون سلفه سلفاه ان ابتعد. ليس فيهم أحد لم يشكو لك من دكة دونية فعلها معه. لكنهم يصفقون له ان وجدوه في شارع او مكان وان لم يجدوه "يتعنّون" الى صفحته في "فيسبوك" ليمطروه بـ "لايكات" متراصفة حتى لو عطس أو .....
مسكت بأحدهم وسألته: اما تعتبر ذلك نفاقا؟ أمس لم تترك للرجل صفحة الا وشعلتها ولا زاوية الا وبصقت بها واليوم اراك تستقبله بالأحضان وتصيح به امامي: يا حبيبي. ثم انك صرت تمتدح ابنه أمامه بينما تقول من وراء ظهره ان ولده جني أزرق. لم يشعر بحرج او خجل بل رد علي: ان الذكاء يحتم عليك ان تداري هؤلاء لتأمن جانبهم!
"بحوشت" عن الأشرار ومداراتهم فوجدت ان أبا يوسف، قاضي القضاة في زمن هارون الرشيد قال: "خمسة يجب على الناس مداراتهم؛ الملك المسلط، والقاضي المتأول، والمريض، والمرأة، والعالم ليقبس من علمه". قد افسر مداراة المرأة من باب رفقا بالقوارير، فلا بأس، ومداراة المريض أو العالم اجد فيها باباً وجواباً، لكن مداراة الملك الطاغية والقاضي المفتري شتحطلها وتطيب؟ أما تظنون انها واحدة من أكبر الويلات التي انصبت على رأس العراق الى اليوم؟
مداراة الأشرار
[post-views]
نشر في: 25 نوفمبر, 2013: 09:01 م
جميع التعليقات 1
كاظم الأسدي
لأستاذ هاشم .. ألم تجد أن الأمر لم يتوقف عندنا بحدود ما ذكره أبا يوسف من وجوب المدارات !! بل تجاوزه الى المبايعة والنصرة فيما يخص الطغاة والمفترين وبتنا اليوم ملكيين أكثر من الملك ؟؟