تجربة الطيران من مدريد إلى الجزر الخالدات فوق الأطلسي تجربة خوف ودهشة ممتدة ، الطيران بين بيروت و قبرص يخطف الأنفاس ، فما أن تستوي الطائرة ارتفاعا حتى تخبرنا المضيفة أن نستعد للهبوط على الجزيرة المقسمة بين عقيدة المقدس الأرثودوكسي وأهواء العشق الصوفي ، في الطيران إلى إسبانيا تبدو جزر المتوسط ، كريت وصقلية وسردينيا وكورسيكا كنجوم متوهجة في زرقة البحر ومعها يتراءى لنا تاريخ الدول المطلة على المتوسط بتناقضاتها الفادحة : بلدان تترنح بين الأديان الثلاثة وتعاليمها المفرطة القسوة وبين المجون الإغريقي الديونيزي والتفاخر التركي بالقوة والسلطان والتساهل الإيطالي المرح من أجل محو وصمة الفاشية ،وبين التعالي الفرنسي المتوارث من أرستقراطية منقرضة ، ندع ذلك كله ليستغرقنا اللطف الإسباني وهو يشع بالسعادات الصغيرة والعواطف المشبوبة ، فشبه الجزيرة الايبيرية ( إسبانيا والبرتغال) قارة مختلفة الأمزجة تمثل الحد الأخير لأوروبا والنقطة الفارقة لتبادلات الغزو : فهي بلاد جرحت كبرياءها الفتوحات فاستعادت هيبتها بغزو كولومبس للعالم الجديد ، شبه الجزيرة تحاول شفاء جراحها فتغزو المحيط وأمريكا.
يتساءل المرء في مدريد : ما الذي أتى بالفاتحين العرب إلى إيبيريا : السلطة ؟ المال؟ شهوة التوسع ؟؟ و علام بكى أبو عبد الله الصغير وهو يسلم مفاتيح غرناطة إلى الملك فرناندو والملكة إيزابيلا ؟ بكى لضياع سلطة استعبدته ثم أعلن الحرب على حكام دويلات الطوائف وأمضى السنوات الأربعة بعد سقوط غرناطة في قتال أبيه وعمه على عرش زائل وانتقل بعدها إلى المغرب ليقتل في معركة مع قريبه حاكم فاس عندما خطط أبوعبدالله لسلبه سلطته ،ترى هل تفجرعبادة السلطة كل هذا الهوس المجنون بالدم ؟
2
لو شئنا أن نمثل مدينة بمزاج إنساني ، فمدريد مدينة باسمة كعروس زاهية ، مغوية وأليفة ، تمنحك شوارعها الواسعة إحساسا باللانهاية والأمل و من نوافيرها ذات التماثيل المذهبة تنهمر مياه الأبدية و تحضنك ظلال أشجار الكستناء العملاقة لتنهمر عليك أخيلة القرون الوسطى وأنت في ساحة ( إسبانيا) عندما يطالعك تمثال سرفانتس وأمامه تمثالان لبطلي روايته دون كيخوته ( الدون كيخوتة وتابعه سانتشو بانثا ) تسحرك ساحة إسبانيا برحابتها و مبانيها العريقة وفتنة النساء المتأنقات ، وثمة راقصات وموسيقيون يقيمون حفلا مرتجلا بين السياح والباعة الجوالين والرسامين وباعة التذكارات وبائعات الهوى اللائي يتصيدن الزبائن في الأزقة المجاورة للساحات . ويضفي الرقص على المدينة وشوارعها عنفوانا ومباهج حارّة لا تجدها في عاصمة أوروبية غير مدريد وتتآلف مع الحشد المنتشي بحماسة الإسبان العاطفية ،يؤالفك الرسام والعازف والمتسول والنشال وبائعة المراوح الورقية المزركشة و "دالي " فحيثما نقلت بصرك تبهرك ملصقات الاحتفال بمئوية سلفادور دالي ومعرضه الاستعادي بمتحف الملكة صوفيا للفن الحديث .
تتلاقى في ساحات مدريد عراقة العمارة و الاحتفالات المرتجلة فتتضافر اللحظة الزائلة مع الأبدية وعلى الجدران ووراء عازف الغيتار يلوح ظل لوركا الغامض لتبدو مدريد معه سفينة طافية في الزمن تعويذتها الحارسة وجه لوركا الذي احتفظ بعد إعدامه بوسامته وشبابه الأبدي ،صوت عازف الغيتار يرتل قصيدة لوركا الشرقية المحتفية بمدريد وغرناطة التي يسمونها الرمانة (غرانادا)
أيتها الرمانة المتفتحة
أنت لهيبُ فوق الشجرة
شقيقة فينوس من لحمٍ ودم
ضحكةُ الحقلِ الذي تتجاذبه الرياض
تحيط بك الفراشات
وهي تظنك شمسًا ثابتةً
تخطفنا نظرة سلفادور دالي النارية لنغادر غريمه الوسيم لوركا ونتبعه إلى المتاحف قبل أن نطير فوق الأطلسي إلى لاس بالماس.
يتبع
رحلة إلى جزر الأطلسي 1- مدريد ولوركا وسلفادور دالي
[post-views]
نشر في: 30 نوفمبر, 2013: 09:01 م