TOP

جريدة المدى > عربي و دولي > نلسون مانديلا عرف كيف ينشر المعايير الأخلاقية السامية

نلسون مانديلا عرف كيف ينشر المعايير الأخلاقية السامية

نشر في: 6 ديسمبر, 2013: 09:01 م

حينما اطلق أخيرا سراح نلسن مانديلا من السجن، بعد 27 سنة، تعجب العالم من سخاء روحه، لا بل حتى من مزاجه، وأسلوبه المهذب، ونباهته المهدِّئة، واستعداده للتبسم وغياب المرارة لديه. ولأنها كانت موضع إعجاب، راحت فضائل القديسين تلك تفسر عبقريته السياسية. ف

حينما اطلق أخيرا سراح نلسن مانديلا من السجن، بعد 27 سنة، تعجب العالم من سخاء روحه، لا بل حتى من مزاجه، وأسلوبه المهذب، ونباهته المهدِّئة، واستعداده للتبسم وغياب المرارة لديه.

ولأنها كانت موضع إعجاب، راحت فضائل القديسين تلك تفسر عبقريته السياسية. فقد كان مانديلا ايضا ماكرا، ذا ارادة حديدية، مندفعا وازدرائيا ـ واكثر حدّة مما بدا عليه. كانت سماته تلك ضرورية له ـ لين وصلابة ـ كي يهندّس معجزة سياسية: إقناع الحكومة بالجلوس الى التفاوض على تنحيها هي بمنحها السلطة للناس الذين قمعتهم بلا رحمة.

التحولات التاريخية بذلك الحجم تحدث تقليديا تحت تهديد السلاح. لكن مانديلا كان يعرف انه كي يأخذ السلطة سلميا، كان مضطرا لتهدئة المخاوف العنصرية والأحقاد التي عجت بها جنوب افريقيا الجميلة منذ ان استقر البيض فيها قبل اربعة قرون خلت. كان عليه ان يعلّم المسلحين السود ألاّ ينبغي منهم الانتقام، وان يعلم البيض الخائفين ألاّ يخشون ثأرا.

لم يكن مانديلا يفعل ذلك لوحده. فمن كلا جانبي الانقسام العنصري، كان يلقى عونا من حشود مفاوضين محنكين يبغون ايجاد طريق سلمي يؤدي بهم الى الديمقراطية. فشريكه الأساس، الرئيس فريدرك و. دي كليرك، كان افريكاني (افريقي من اصل اوربي) داهية له بصيرة بفهم ان نظام الفصل العنصري البشع، الذي كان يدافع عنه هو في السابق، يدمر بلده، وكان جلدا في تمسكه باستراتيجية الاستسلام بلا قتال على مدى اربع سنوات جهيدة من مفاوضات تنطلق وتتوقف، حتى عندما ظهرت الصفقة اقل جاذبية للأقلية البيضاء، التي وضعته في السلطة.
لم يكن الرجلان ابدا متفاهمين مع بعضيهما. ولم يندم مانديلا عن استعمال دي كليرك كبش محرقة كلما كان خدم هذا الأسلوب اغراضه. ففي مؤتمر صحفي في اليوم الذي سبق تكريمهما مناصفة بجائزة نوبل للسلام في العام 1993، كرر مانديلا اتهامه (الملتبس) بأن دي كليرك كان العقل المدبر وراء الشقاق المسلح بين مجموعات السود المنافسة. أثارت هذه التهمة حنق دي كليرك، لكن كان لها فعلها بين صفوف المسلحين في بلدات السود.
كان مانديلا يستعمل احيانا هالة الشهيد المحيطة به كهراوة ضد انصاره هو شخصيا. ففي حملة انتخابية في العام 1994، عندما عمد بعض الشبان السود المتهورين الى تمزيق لافتة حزب سياسي صغير كانوا يعدونه فاسدا، وصفهم مانديلا بانهم "غوغاء" و "حيوانات" وقال انهم عار على حركة التحرر. وأمر ان يقوم اولئك المراهقين المعاقَبْين بإعادة تعليق اللافتة، وهو ما قاموا به بسرعة.
لكن مع تفرق الجموع، رد لهم كرامتهم. فقد قال لهم انه يحبهم، وأنهم سيكونون رفاقه الى الابد. تقريع، وتقرّب، ومطالبة، ومداهنة ـ فعندما تكون لديك أخلاقيات سامية، فان خياراتك التكتيكية لا حدود لها في المستوى العملي. وعبقرية مانديلا كانت بمعرفته كيف ومتى يبينها كلها. في تلك الأيام، كانت جنوب افريقيا تعج بالمسلحين البيض ايضا. واخطر لحظة في حملة مانديلا الرئاسية جاءت عندما ترك آلاف عدة من البيض المدججين بالسلاح مزارعهم وتوجهوا الى بوفوثاتسوانا، وهي احدى مناطق السود، التي أقيمت لهم في ظل الفصل العنصري، حيث كانوا يخططون للانضمام الى القوات المناصرة للفصل العنصري، المتكونة من سود كانوا ألعوبة بيد الحكومة، وحرف الانتخابات عن مسارها. 
وعلى خلاف المتوقع، انقلب حلفاؤهم السود المفترضون عليهم، وآل اليوم بسرعة الى فشل دموي وخيبة. وثمة صورة التقطت رمزية الرمق الاخير للمسلحين البيض ـ ونشرت على الصفحات الاولى من صحف العالم ـ كانت تصور مزارعا ابيض جريحا ببذلته الخاكية وهو يتوسل الرحمة من شاب اسود من تلك المنطقة وهو يقف عليه ببندقيته. الشاب الاسود قتل المزارع في المكان نفسه.
بعد مضي شهرين، انتخب مانديلا رئيسا. استغرق عد بطاقات الاقتراع اياما قلائل، ولقضاء ذلك الوقت، عمد مانديلا الى دعوة مجموعات صغيرة من المراسلين الاجانب الى جناح بفندق حيث اجرى لقاءات معهم. وخلال دوري بإجراء اللقاء معه، سألته عن ذلك الجندي الشاب الاسود. وجاءتني الاجابة ان في يوم ذلك الحادث، دان المرشح مانديلا اطلاق النار على المزارع، وقال ان حكم القانون يجب ان يسود. سألته: الآن، وفيما كان على وشك ان يصبح رئيسا، هل سيقدم ذلك الجندي الى العدالة؟ 
رمقني مانديلا بنظرة باردة. "لماذا الصحافة الغربية تركز كثيرا على قضية واحدة بينما آلاف كثيرة من السود كانوا ضحايا عنف سياسي كثير لسنوات كثيرة؟"، كانت هذه إجابته لي، فأصيب لساني بشلل. لم يجرؤ احد من المراسلين الموجودين في الغرفة على المجازفة بالمضي بأسئلتهم عن الأمر. غلقت القضية. هكذا يعرف الرجل الكبير كيف يلعب بورقة العرق. 
عندما اوشك لقائنا على الانتهاء، كسرتُ قاعدة أساسية من قواعد الصحافة. فقد ناولت نيلسن مانديلا بوستر حملة انتخابية كنت قد اخذته تذكارا وطلبت منه ان يوقّع عليه. صافحني بيد قوية وابتسامة حارة وكتب ملاحظة رائعة. والآن أعلق ذلك البوستر بمكتبي، حيث انظر اليه يوميا.
 مدير مكتب واشنطن بوست بجنوب افريقيا.
ترجمة فالح حسن فزع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

خلفت 13 قتيلاً.. فيضانات مفاجئة تجرف مناطق سكنية في إندونيسيا

خلفت 13 قتيلاً.. فيضانات مفاجئة تجرف مناطق سكنية في إندونيسيا

المدى/ متابعة أعلنت السلطات الإندونيسية، اليوم الأحد، عن مصرع 13 شخصاً جراء فيضانات مفاجئة بسبب أمطار غزيرة أدت إلى جرف مناطق سكنية شرقي البلاد. ونقلت وكالة "أسوشيتد برس" عن مسؤولون محليين قولهم إن الفيضانات...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram