TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تل قمامة لكل شهيد!

تل قمامة لكل شهيد!

نشر في: 9 ديسمبر, 2013: 09:01 م

تحت كل شهيد، تل من القمامة. أمن اجل هذا ناضل شهداؤنا.. وشهداؤكم؟
عن مدينة من مدن بلادنا هذه أحدثكم. ولست بحاجة الى ذكر اسمها، لان مدننا صارت تتشابه اكثر من اللازم. انها مدن افلتت من خيالاتنا الشعرية، وحين يخون الخيال ركام الآجر والكونكريت والإسفلت الرديء، تتمدد العاهة ويستطيل الخراب، مثل ختم يقوم بتوحيد اشكال الطين الأولى، على غير هدى، فيحولها الى فساد متماثل بالصورة والمحتوى والمسببات.
احد مداخل المدينة كأنه بوابة الى الجحيم، واحسب ان العديد من الزوار الاجانب الذين مروا وشاهدوا الحال، قرروا ان لا يعودوا ثانية مهما كانت المغريات. هنا بقايا من الاسلحة التي دمرتها كل الحروب. هناك طريق سرق اللصوص اسيجتها منذ ١٠ اعوام، وتركوها كسيدة حليقة الرأس. وبموازاة كل هذا يتواصل الخراب حتى مركز المدينة. بل ان محاولات الحكومة اصلاح الفاسد، جاءت كئيبة ينقصها الذوق، مثل عملية تجميل فاسدة وفاشلة. اعمدة الكهرباء الجديدة (ويعلم الله وحده سعرها وكلفتها) لا تليق بزقاق صومالي، وجسر المشاة الجديد حديدي صدئ وكئيب ضيق مثل قبر. كأن طفلا او صبيا مراهقا اوكلوا له مهمة استبدال قلب عاجز، فوضع بدلا عنه طحالا ممزقة!
ان الخراب في بعض المدن، لون من العدم، اي انه نقص في البنى التحتية وعوز في المباني الضرورية. لكن الخراب في مدننا وجود قائم بذاته، وبنيان انفقنا عليه سنوات وأموالاً وسجالات وتحالفات نزيهة وغير نزيهة..الخ. الخراب في البلدان الاخرى قد يزول بإيجاد العمران، اما في مدننا فلن يزول الا بعملية هدم طويلة لما فسد، تسبق اي عملية تصحيح. كم مبنى وطريقا وجسرا علينا ان نهدم لو قررنا ان نعيد تشكيل مدننا وفق معايير صحيحة؟ ومن يتحمل هذه الاخطاء المتصلبة بطعم كونكريت الخطايا وخرائطها ومتاهاتها؟
احدث جليسي الخبير عن هذا الاسف، فيشير بيده الى مجسر جديد سيجري هدمه لاحقا، لان ركائزه أنشئت بالاهمال واللامبالاة، فوق خط تصريف لمياه الأمطار، فأغلقته. انها حكاية تشبه "صخرة عبعوب"، في مدينة بعيدة عن بغداد، لكن شركاء العملية السياسية لا دخل لهم بصخرتها التي تسد عقولنا وخيالاتنا وتغرق العاصمة، بل بإهمال سببه الاستعجال في صناعة دعاية انتخابية خائبة تكرس خرابنا.
المدينة المسورة بالخراب، تكثر فيها صور الشهداء، الشباب الذين راحوا ضحية القمع السياسي لصدام حسين، وشاءت مؤسسة الشهداء ان تحتفي بهم، عبر توزيع صورهم وأسمائهم في تقاطعات المدينة، مركزا واطرافا. الصور باهتة، والتصميم الفني بائس، لكن الادهى، ان تحت كل جدارية للشهداء، يرقد تل من القمامة التي عجزت البلدية عن رفعها. ان هذا لمشهد بليغ، خاصة وان كاتب الجدارية يسجل في سطرها الاول: هؤلاء قتلهم بعثي.. كي لا ننسى! اما القتل المعنوي بوضع كل هذه القمامة تحت جدارية الشهداء الابطال، فإن كاتب النص لا يعبأ به، وكأنه يريد إلهائي وإلهاءكم بحديث البعث والصداميين، عن مسؤولية خلفاء صدام في توزيع القمامة تحت جداريات الموتى، وفي كل الطرق التي يسلكها الاحياء.
ولولا طيب اهل هذه المدن، لحكم عليها التاريخ بأنها مدخل شرعي لجهنم. ولولا ما تبقى من اصالة اهلها، لحق عليها ان تنخسف وتصبح هباء، ولكان افضل من هذا الاصرار على الفشل. مالي لا اتذكر هنا سوى الرحالة ابن جبير الأندلسي؟ لقد جاء محملا بالأساطير عن بلاد هارون الرشيد، قبل ٧٠ عاماً من دخول هولاكو علينا، لكنه وجد خراباً في الأبنية والنفوس ونقصا مروعا في التمدن. الى درجة أنه يقسو كثيراً على اهل العراق ويقول: لولا ورع ابن الجوزي وفصاحته، ولطف فقيه الخراسانية ومواعظه وتقواه لخسف الله الأرض بأهل المدينة. اين انت اليوم من فسادنا يا بن جبير؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 4

  1. حيدر العراقي

    هذا هو الكلام المنطقي .. استاذنا سرمد يعود الى نقطة تفوقه ورؤيته الفذة التي طالما عودنا عليها . هذا هو الكلام الصحيح .. العملية السياسية ميتة بمجملها؛ والكل مساهم في الجريمة وتحويل مدن العراق الى قمامة وخرائب وموتى .. لن نستثني احدا، فليس من احد احسن من

  2. aljaf

    مقاﻻتك رائعة وتحليﻻتك منطقية جدا وجريئة. لدي مﻻحظة على هذه المقالة فيما يخص دخول هوﻻكو التي فهمت من اﻻشارة اليها انك تقصد ان من دمر بغداد هو هوﻻكو، برأيي ان هذا خطأ شائع ﻷن من دمر بغداد وحطم قيمها المدنية وافقدها بريق حضارتها ليس هوﻻكو بل عبد الكريم قاسم

  3. مهيمن الحر

    كل مقالاتك وبرامجك حكم وروعة يا استاذ سرمد

  4. علي عواد

    قاتل الله امريكا الشيطان الاكبر والاغبر ومن اتى معها من الحاقدين الئام الى يوم الدين وال سعود الاغبياء ومن معهم من اعراب الخليج وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram