TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تاريخ بطاقة بريدية

تاريخ بطاقة بريدية

نشر في: 10 ديسمبر, 2013: 09:01 م

1ـ 7
سنوات طويلة، منذ بداية دراستي للأدب الألماني في كلية الآداب في جامعة بغداد، الذي حدث صدفة حقيقة (تلك القصة سأرويها في مكان آخر)، لأنني انتهيت إلى هذا القسم من كلية الآداب، حسب درجة معدلي بعد نهاية الدراسة الإعدادية، لكن أبي وجد في ذلك تأييداً لكلامه، قال لي، بأنني ومذ كنت صغيراً كنت أردد دائماً اسم ألمانيا على لساني، وأن أصدقاءه وزملاء عمله أو الجيران، أو أقاربنا الذين كانوا يزوروننا، كثيراً ما تندروا بسؤالي مازحين: "أين تريد الذهاب عندما تكبر"؟ ثم يضحكون من إجابتي لهم: "إلى ألمانيا". أبي يقول أيضاً، أن البعض أُرجع ذلك إلى ميلي للشقراوات، رغم أنه أمر غير صحيح، لأننا لم نملك تلفزيوناً حتى أرى فيه ألمانيات "شقراوات"! أعرف أن علاقتي اللاحقة بالأدب الألماني لها علاقة وقوعي صدفة على ترجمة ديوان "مراثي دوينيس" للشاعر الألماني راينر ماريا ريلكة في مكتبة صغيرة في العمارة، المكتبة العصرية أو مكتبة عبدالرحيم الرحماني بالأحرى التي ما زالت قائمة حتى اليوم، وبمسرح بيتر فايس منذ أن مثلنا مسرحيته "أنشودة أنغولا" على مسرح النشاط المدرسي، لكن لا أنا ملكت تفسيراً "منطقياً" لادعاء أبي ولا هو استطاع إقناعي بسبب إصراري على "ألمانيا"؟ الذي لا يعني بالضرورة دراسة الأدب الألماني في الجامعة طبعاً؛ الاهتمام بالأدب وقراءته لا يعني بالضرورة دراسته، وإلا لكان عليّ دراسة كل الآداب الجميلة الأخرى التي سحرتني مبكراً: الأدب الروسي، الأدب الفرنسي، الأدب الإنكليزي، ولاحقاً الأدب الإسباني الذي احتلت صفوفه بعد سنتين فقط من تأسيسه بعد عام 1977، كل غرف الطابق الأول في كلية الآداب. دراستنا الجامعية تحددها حاجات ومسارات أخرى. مثل قرار بالزواج. ولأن الزواج التقليدي عندنا "قسمة ونصيب" وفي حالات نادرة يتزوج المرء نتيجة حب، فإن اختيار الاختصاص الجامعي هو أمر لا علاقة له بالرغبات الخاصة. له علاقة بنظام القبول المركزي، بالمعدل الذي حصل عليه الطالب بعد الانتهاء من الدراسة الإعدادية، كما له علاقة بالنظام السياسي. لكن رغم ذلك، ربما كان أبي على حق من ناحية أخرى، ميلي "الألماني" ودراستي الأدب الألماني لم يحدث مئة بالمئة صدفة، من يتذكر المثل: لا دخان بلا بارود؟ فلو عرف أبي أو أنا أن الأمر له علاقة أصلاً ببغداد، أو بإحدى تلك البطاقات البريدية التي كان قد أرسلها لي ولأمي من هناك، لما استغرب هو أو استغربت أنا من إصراري على ترديد كلمة ألمانيا على لساني في ذلك الحين.
لا أدري إذا كانت تلك هي البطاقة البريدية الأولى التي جاءتنا من بغداد، لكنها كما يبدو كانت بطاقة بريدية عزيزة عليّ بصورة خاصة، لأنها واحدة من بطاقات قليلات نجت بنفسها من دمار الزمن لها، صحيح أنني حرصت في ذلك الوقت على لصق بعضها على ورق دفتر صغير احتفظت به لهذا الغرض، دفتر أنيق بالأحرى، اشترته لي أمي من محل شاكر الهاشمي "الراقي" في المدينة، لكن بعد سنوات وعندما بدأ شغفي بالصور الرياضية ليصبح الهواية المحببة بالنسبة لي، كان على عشرات البطاقات البريدية أن تترك مكانها للصور هذه، لا أدري ما الذي حلّ بتلك البطاقات؟ أمي تقول إنها ظلت تحتفظ بها حتى سنوات لاحقة. وفقط عندما دخلت قوات الحرس الجمهوري مدينة العمارة بعد انتفاضة ربيع 1991م، ضد الديكتاتور آنذاك وبعد هزيمته في حرب الكويت، في تلك الأيام التي راح فيها أفراد الحرس الجمهوري يدخلون البيوت في جنوب البلاد ويفتشون عن الأسلحة وعن المنشورات، عن كل ما يمكن أن تقع عليه عيونهم أو يشكّون به، حرقت أمي حزمة كبيرة من الأوراق القديمة، كل الأرشيف الذي أرادت الاحتفاظ به لي، كما تقول، عشرات البطاقات البريدية القديمة كانت من ضمن تلك الأوراق. تقول أيضاً، إنها بكت وهي ترى نيران تنور الخبز الطيني تلتهم الأرشيف "الكنز" الذي أرادت إنقاذه لي لكنها لم تقدر. كانت تعرف أنني سأعود من منفاي ذات يوم. وكما تعرف، قالت لي: "أول ما يرجع الغايب مثل الطير، يدور عن كل قشة بعشه القديم".
 يتبع

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram