TOP

جريدة المدى > عام > صدر عن المدى: رينوار أبي .. ذكريات مغمّسة بالألم !

صدر عن المدى: رينوار أبي .. ذكريات مغمّسة بالألم !

نشر في: 13 ديسمبر, 2013: 09:01 م

في البدء و قبل الخوض في قراءة صفحات هذا الكتاب ، من المفيد الإشارة إلى أن المترجم عباس المفرجي ، قدم جهدا" مضاعفا" في صياغة الترجمة على الوجه المناسب ، و اختيار نسق الجمل و المفردات الموحية و المعبرة عن هذا النقل التوثيقي ، و هو ليس جهدا" مضاعفا" و

في البدء و قبل الخوض في قراءة صفحات هذا الكتاب ، من المفيد الإشارة إلى أن المترجم عباس المفرجي ، قدم جهدا" مضاعفا" في صياغة الترجمة على الوجه المناسب ، و اختيار نسق الجمل و المفردات الموحية و المعبرة عن هذا النقل التوثيقي ، و هو ليس جهدا" مضاعفا" و معقدا" و حسب ، و إنما مهمة شاقة ، اضطلع بها المترجم عباس المفرجي و أداها بأمانة و سلاسة واقتدار ، لكون المؤلف جان رينوار سينمائيا" في الأساس ، كما أن كتابته توثيقية ، اعتمادا" على ما تجود به ذاكرته ، و بالتالي لم يكن كاتبا" أو شاعرا" أو روائيا" ، حتى يُسهّل من مهمة المترجم .

المؤلف هنا ( جان رينوار ) الابن السينمائي ، يبدأ كتابه هذا ، برحلة استرجاعية لعلاقته مع أبيه ، و أيضا" لحياة أبيه الرسام الانطباعي ، هذا الرسام الذي كان يعاني من أوجاع الروماتيزم ، وهذه الأوجاع و الآلام جعلت من ابنه ( جان رينوار ) ، يُقدر آلام و أوجاع أبيه تظاهرا" أو هكذا يبدو ، عندما يكشف و يعلن عن ذكرياته المبنية على انطباعاته الشخصية ، التي تتوزع في حوارات جانبية عائلية ، و المواقف الشخصية ، و حتى التوصيفات و الصور الحياتية بين أفراد الأسرة الواحدة و الأماكن التي يرتادها الأب ، بما في ذلك مشاهد مؤثرة في حياة الأب الرسام ، عندما يخاطب أبنه ( جان ) مخاطبة أخيرة ، (( لا تضع على صدري حجرا" ثقيلا" ، أريد أن أذهب لأتنزّه في الريف لبعض الوقت )) 0 

أردنا بهذا التداخل و التدخل ، أن نعطي صورة عن المشهد الأخير الذي كان شاهدا" على نمط العلاقة السائدة بين الأب ( المشهود ) و الأبن ( الشاهد ) ، خصوصا" و أن مثل هذا الطلب ( الغاضب ) كان آخر ما طلبه الرسّام بيير أوغست رينوار من ابنه جان رينوار قبيل وفاته ، تلك الوفاة التي حدثت في الثالث من ديسمبر عام 1919 نتيجة إصابته بالتهاب رئوي ، و هو كان آخر كلمات قالها و هو يحدّق في لوحة صغيرة تصوّر باقة من شقائق النعمان كان قد انتهى للتوّ من رسمها : الآن بدأت أفهم شيئا ما ! 
بساطة الحياة التي عاشها رينوار وكرّسها كليّا" لفنّه و لتصوير السعادة ، سأتناولها في كتابة لاحقة ، و ما يهمنا في هذه القراءة ، هو معايشة أو على الأقل تصوّر الأجواء التي كانت سائدة بين الأب من جهة ، و الأبن من جهة أخرى ، و من حيثيات و تفاصيل هذه العلاقة ، نتعرف أيضا" على العلاقة السائدة بين أفراد العائلة برمتها ، و خصوصا" أن رينوار الأب في سنواته الأخيرة كان مقعدا "على كرسي ، لكن العوق و الشلل لم يمنعه من ممارسة فنه الانطباعي على أكمل وجه ، و هنا يكمن سر الإبداع ! 0 
(( اعتاد رينوار الذهاب بعد الظهر إلى متحف اللوفر ، بدلا" من الذهاب للغداء مع أصدقائه في المقهى الصغير عند زاوية الشارع ، أضيف فراغونار إلى قائمة المفضلين عندي التي تضم واتو وبوشيه ، و لا سيما بورتريهاته عن النساء ، نسوة فراغونار البرجوازيات تلك ! كن مميزات و في الوقت عينه طيبات القلب ، أنت تسمعهن يتكلمن لغة آبائنا ، لاذعة لكنها مبجلة )) 0 
في هذه الصورة البسيطة في التوصيف و الاعتيادية في الحياة اليومية ، يتحدث المؤلف عن النمط السائد و الغالب في أحاديث النسوة اللائي يترددن على متحف اللوفر آنذاك ، و هن مشمولات بنمط لا يخرج عن دائرة الثرثرة الساذجة التي تهيمن على مرتادي الأماكن الفنية في ما مضى ، ربما تكون هذه الأحاديث مضاهية للدردشة الحالية في مواقع التواصل الاجتماعي ، بيد أن هذه 
الذكريات لا تنفك عن الإشارة الجريئة في نفس الوقت ، إلى أمور تُعتبر غير مستحبة و عيبا في مجتمعنا الشرقي ، و ان باتت هذه الأفعال أيضا" في المجتمع الغربي يتحاشونها ، لكنهم لا يرونها من العيب و لا يشعرون منها بالإحراج ! 0 
و في صفحات الكتاب ، ينقلك جان الابن إلى مشاعر رينوار الأب في مشاهداته التي تطفح بالرؤية الإنسانية ، أي أن رينوار الأب ينظر في الجانب الإنساني ، و يشيح بوجهه عن الجانب الحسي الإغرائي ، على الرغم من ملكة الرسم النظرية و الحسية ، التي تتعلق بعمل الرسام و الفنان التشكيلي على وجه العموم ! 
بيد أن أبنه جان و ( بخبث ) ظاهر يترك التعليق مفتوحا" لكل التفسيرات بعدما أهال عليها ثقلا" من الشك و الغمز المقصودين (( رينوار ، تقاسم مع الأطفال هذا الاستعداد الطبيعي للفضول التواق ، لهذا أحبهم كثيرا" ، المشاعر التي تتنامى فيه عند رؤية جسد امرأة ، ربما لها صلة بفكرة الأمومة ، كانت هذه عاطفة نقية لديه ، مع هذا ، لا أصدق بأنه في الحقيقة فكر بالأم المرضعة حين كان يرى ثدي امرأة ، أو الحامل حين يشاهد بطنا" كامل الاستدارة.، لقد ترك هذه التفسيرات الطبيعية للمثقفين )) 0 
لم يوفر ابن رينوار ( جان ) أحدا" من أقاربه ، إلا و تناول سيئاته ، في حين إذا ما ذكر إيجابياته ، فإن هذه الإيجابيات ، يستدركها بشيء من الشك و التشويه ، بل و حتى اتهام أصحابها ( أقاربه ) بتهمة تحرق اليابس مع الأخضر ، و من هذا الواقع ، فإن التساؤل المطروح الذي من الممكن أن يطرحه القارئ لهذا الكتاب : هل جان رينوار ، يريد من وراء سرد ذكرياته هذه ، أن يقوم بعملية جلد الذات ، ليس لذاته ( لشخصه ) و إنما لأسرته ، و كأنه بهذا التشويه المتعمد أراد أن يقول : أنا بريء من وزر أسرتي ! 
و على هذا المنوال ، فإن جان رينوار بدا محموما" و مهموما" في نشر غسيل عائلته واحدا" تلو الآخر ، و إن كان هذا الغسيل في نشره ينصب على أبيه الرسام بيير - أوغست رينوار ، و مثل هذا ( الاستذكار العدائي ) من قبل الابن ، يجعل القارئ يتساءل : هل مثل هذا العداء ، مرده الغيرة الإبداعية ( سينمائي مقابل رسام ) ، و ربما هذه المقاربة الضدية ، قد تبرر بشكل أو بآخر مثل هذه الغيرة ؟ ! ، لكنها في نفس الوقت ، تكشف عن الخلل الكامن في متن الأسرة ، هذه الأسرة التي تموّجت بالإبداع والشهرة 0 
(( خراب بدأ عندما اشتغل في خياطة البدلات النسائية ، إذ جلب له هذا العمل عددا" لا يحصى من الزبائن الإناث ، اللواتي كان سحرهن لا يُقاوم ، كلما قل وفاؤه لزوجته ، في النهاية ماتت من آثار هذا كله ، بدد فكتور ثروته على زبوناته الفاتنات )) 0 
الواضح و مثل ما ظهر لنا في هذه القراءة ، أن الكتاب من خلال مؤلفه حاول الارتكاز على ثنائية السينمائي و الرسام ، مع ميل طاغ إلى النيل و تشويه سمعة الرسام الأب ، لمصلحة الأبن 
السينمائي الذي هو نفسه المؤلف و المدوّن و الموّثق لهذه الذكريات ، و بالتالي فإن هذه الذكريات لن تكون شهادة منصفة و عادلة ، ما دام الابن حاول تشويه سمعة أبيه لغرض ما ، و لم يكتف بذلك ، بل هو سعى إلى تشويه سمعة الأسرة بكاملها ، من دون أن يرف رمش لجفنه ، لكن الشاهد و المفترض أن لا تُجرح شهادته ، هو ذلك الابن الأناني و الذي تقمص دور الشاهد ، فما بالك إذا ما كان مؤلفا" ؟! 
إن من الصعب تخيّل ، أن هناك فكرين متقابلين ( فكر الابن و فكر الأب ) ، فهذه المذكرات حسبما قال كاتبها ، ( إنه ينقلها من خلال انطباعه ، و ليس من خلال التوثيق الأمين ، الذي كان من المفترض أن يكشف الحقيقة ببياضها الناصع ) ! 
هذه الحقيقة التي اضطر المؤلف – الابن – ( جان رينوار ) إلى الاعتراف بها على مضض ، و إن جاء هذا الاعتراف متأخرا" ! 
خسر الابن ( السينمائي ) السليم جسديا" , و كسب الأب المعوق و المشلول ، بل صار كرسيه منطلقا" لهذا الكسب والنجاح ، (( نجح رينوار في تحقيق حلم حياته كلها : ( الغنى بوسائل فقيرة ) 0 
و بهذه القراءة ، اطلعنا على كتاب مفعم بكل أحاسيس الصراع العائلي ، بين الابن و الأب ، و ليس الخلاصة تتمثل في الإعلان عن الفائز في هذا الصراع ، و إنما العبرة تكمن في أن الخلف ليس بالضرورة أن يكون أفضل من السلف ! 
و بالتالي ، كان المترجم مؤلفا" ثانيا" بكل معاناته و اجتهاداته ، وهكذا كان المترجم عباس المفرجي ، يضوع بإناراته حرفا" بعد حرف ، إن لم أقل ضوءاً" بعد ضوء ، و كل ترجماته إضاءة !

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram