في البدء و قبل الخوض في قراءة صفحات هذا الكتاب ، من المفيد الإشارة إلى أن المترجم عباس المفرجي ، قدم جهدا" مضاعفا" في صياغة الترجمة على الوجه المناسب ، و اختيار نسق الجمل و المفردات الموحية و المعبرة عن هذا النقل التوثيقي ، و هو ليس جهدا" مضاعفا" و
في البدء و قبل الخوض في قراءة صفحات هذا الكتاب ، من المفيد الإشارة إلى أن المترجم عباس المفرجي ، قدم جهدا" مضاعفا" في صياغة الترجمة على الوجه المناسب ، و اختيار نسق الجمل و المفردات الموحية و المعبرة عن هذا النقل التوثيقي ، و هو ليس جهدا" مضاعفا" و معقدا" و حسب ، و إنما مهمة شاقة ، اضطلع بها المترجم عباس المفرجي و أداها بأمانة و سلاسة واقتدار ، لكون المؤلف جان رينوار سينمائيا" في الأساس ، كما أن كتابته توثيقية ، اعتمادا" على ما تجود به ذاكرته ، و بالتالي لم يكن كاتبا" أو شاعرا" أو روائيا" ، حتى يُسهّل من مهمة المترجم .
المؤلف هنا ( جان رينوار ) الابن السينمائي ، يبدأ كتابه هذا ، برحلة استرجاعية لعلاقته مع أبيه ، و أيضا" لحياة أبيه الرسام الانطباعي ، هذا الرسام الذي كان يعاني من أوجاع الروماتيزم ، وهذه الأوجاع و الآلام جعلت من ابنه ( جان رينوار ) ، يُقدر آلام و أوجاع أبيه تظاهرا" أو هكذا يبدو ، عندما يكشف و يعلن عن ذكرياته المبنية على انطباعاته الشخصية ، التي تتوزع في حوارات جانبية عائلية ، و المواقف الشخصية ، و حتى التوصيفات و الصور الحياتية بين أفراد الأسرة الواحدة و الأماكن التي يرتادها الأب ، بما في ذلك مشاهد مؤثرة في حياة الأب الرسام ، عندما يخاطب أبنه ( جان ) مخاطبة أخيرة ، (( لا تضع على صدري حجرا" ثقيلا" ، أريد أن أذهب لأتنزّه في الريف لبعض الوقت )) 0
أردنا بهذا التداخل و التدخل ، أن نعطي صورة عن المشهد الأخير الذي كان شاهدا" على نمط العلاقة السائدة بين الأب ( المشهود ) و الأبن ( الشاهد ) ، خصوصا" و أن مثل هذا الطلب ( الغاضب ) كان آخر ما طلبه الرسّام بيير أوغست رينوار من ابنه جان رينوار قبيل وفاته ، تلك الوفاة التي حدثت في الثالث من ديسمبر عام 1919 نتيجة إصابته بالتهاب رئوي ، و هو كان آخر كلمات قالها و هو يحدّق في لوحة صغيرة تصوّر باقة من شقائق النعمان كان قد انتهى للتوّ من رسمها : الآن بدأت أفهم شيئا ما !
بساطة الحياة التي عاشها رينوار وكرّسها كليّا" لفنّه و لتصوير السعادة ، سأتناولها في كتابة لاحقة ، و ما يهمنا في هذه القراءة ، هو معايشة أو على الأقل تصوّر الأجواء التي كانت سائدة بين الأب من جهة ، و الأبن من جهة أخرى ، و من حيثيات و تفاصيل هذه العلاقة ، نتعرف أيضا" على العلاقة السائدة بين أفراد العائلة برمتها ، و خصوصا" أن رينوار الأب في سنواته الأخيرة كان مقعدا "على كرسي ، لكن العوق و الشلل لم يمنعه من ممارسة فنه الانطباعي على أكمل وجه ، و هنا يكمن سر الإبداع ! 0
(( اعتاد رينوار الذهاب بعد الظهر إلى متحف اللوفر ، بدلا" من الذهاب للغداء مع أصدقائه في المقهى الصغير عند زاوية الشارع ، أضيف فراغونار إلى قائمة المفضلين عندي التي تضم واتو وبوشيه ، و لا سيما بورتريهاته عن النساء ، نسوة فراغونار البرجوازيات تلك ! كن مميزات و في الوقت عينه طيبات القلب ، أنت تسمعهن يتكلمن لغة آبائنا ، لاذعة لكنها مبجلة )) 0
في هذه الصورة البسيطة في التوصيف و الاعتيادية في الحياة اليومية ، يتحدث المؤلف عن النمط السائد و الغالب في أحاديث النسوة اللائي يترددن على متحف اللوفر آنذاك ، و هن مشمولات بنمط لا يخرج عن دائرة الثرثرة الساذجة التي تهيمن على مرتادي الأماكن الفنية في ما مضى ، ربما تكون هذه الأحاديث مضاهية للدردشة الحالية في مواقع التواصل الاجتماعي ، بيد أن هذه
الذكريات لا تنفك عن الإشارة الجريئة في نفس الوقت ، إلى أمور تُعتبر غير مستحبة و عيبا في مجتمعنا الشرقي ، و ان باتت هذه الأفعال أيضا" في المجتمع الغربي يتحاشونها ، لكنهم لا يرونها من العيب و لا يشعرون منها بالإحراج ! 0
و في صفحات الكتاب ، ينقلك جان الابن إلى مشاعر رينوار الأب في مشاهداته التي تطفح بالرؤية الإنسانية ، أي أن رينوار الأب ينظر في الجانب الإنساني ، و يشيح بوجهه عن الجانب الحسي الإغرائي ، على الرغم من ملكة الرسم النظرية و الحسية ، التي تتعلق بعمل الرسام و الفنان التشكيلي على وجه العموم !
بيد أن أبنه جان و ( بخبث ) ظاهر يترك التعليق مفتوحا" لكل التفسيرات بعدما أهال عليها ثقلا" من الشك و الغمز المقصودين (( رينوار ، تقاسم مع الأطفال هذا الاستعداد الطبيعي للفضول التواق ، لهذا أحبهم كثيرا" ، المشاعر التي تتنامى فيه عند رؤية جسد امرأة ، ربما لها صلة بفكرة الأمومة ، كانت هذه عاطفة نقية لديه ، مع هذا ، لا أصدق بأنه في الحقيقة فكر بالأم المرضعة حين كان يرى ثدي امرأة ، أو الحامل حين يشاهد بطنا" كامل الاستدارة.، لقد ترك هذه التفسيرات الطبيعية للمثقفين )) 0
لم يوفر ابن رينوار ( جان ) أحدا" من أقاربه ، إلا و تناول سيئاته ، في حين إذا ما ذكر إيجابياته ، فإن هذه الإيجابيات ، يستدركها بشيء من الشك و التشويه ، بل و حتى اتهام أصحابها ( أقاربه ) بتهمة تحرق اليابس مع الأخضر ، و من هذا الواقع ، فإن التساؤل المطروح الذي من الممكن أن يطرحه القارئ لهذا الكتاب : هل جان رينوار ، يريد من وراء سرد ذكرياته هذه ، أن يقوم بعملية جلد الذات ، ليس لذاته ( لشخصه ) و إنما لأسرته ، و كأنه بهذا التشويه المتعمد أراد أن يقول : أنا بريء من وزر أسرتي !
و على هذا المنوال ، فإن جان رينوار بدا محموما" و مهموما" في نشر غسيل عائلته واحدا" تلو الآخر ، و إن كان هذا الغسيل في نشره ينصب على أبيه الرسام بيير - أوغست رينوار ، و مثل هذا ( الاستذكار العدائي ) من قبل الابن ، يجعل القارئ يتساءل : هل مثل هذا العداء ، مرده الغيرة الإبداعية ( سينمائي مقابل رسام ) ، و ربما هذه المقاربة الضدية ، قد تبرر بشكل أو بآخر مثل هذه الغيرة ؟ ! ، لكنها في نفس الوقت ، تكشف عن الخلل الكامن في متن الأسرة ، هذه الأسرة التي تموّجت بالإبداع والشهرة 0
(( خراب بدأ عندما اشتغل في خياطة البدلات النسائية ، إذ جلب له هذا العمل عددا" لا يحصى من الزبائن الإناث ، اللواتي كان سحرهن لا يُقاوم ، كلما قل وفاؤه لزوجته ، في النهاية ماتت من آثار هذا كله ، بدد فكتور ثروته على زبوناته الفاتنات )) 0
الواضح و مثل ما ظهر لنا في هذه القراءة ، أن الكتاب من خلال مؤلفه حاول الارتكاز على ثنائية السينمائي و الرسام ، مع ميل طاغ إلى النيل و تشويه سمعة الرسام الأب ، لمصلحة الأبن
السينمائي الذي هو نفسه المؤلف و المدوّن و الموّثق لهذه الذكريات ، و بالتالي فإن هذه الذكريات لن تكون شهادة منصفة و عادلة ، ما دام الابن حاول تشويه سمعة أبيه لغرض ما ، و لم يكتف بذلك ، بل هو سعى إلى تشويه سمعة الأسرة بكاملها ، من دون أن يرف رمش لجفنه ، لكن الشاهد و المفترض أن لا تُجرح شهادته ، هو ذلك الابن الأناني و الذي تقمص دور الشاهد ، فما بالك إذا ما كان مؤلفا" ؟!
إن من الصعب تخيّل ، أن هناك فكرين متقابلين ( فكر الابن و فكر الأب ) ، فهذه المذكرات حسبما قال كاتبها ، ( إنه ينقلها من خلال انطباعه ، و ليس من خلال التوثيق الأمين ، الذي كان من المفترض أن يكشف الحقيقة ببياضها الناصع ) !
هذه الحقيقة التي اضطر المؤلف – الابن – ( جان رينوار ) إلى الاعتراف بها على مضض ، و إن جاء هذا الاعتراف متأخرا" !
خسر الابن ( السينمائي ) السليم جسديا" , و كسب الأب المعوق و المشلول ، بل صار كرسيه منطلقا" لهذا الكسب والنجاح ، (( نجح رينوار في تحقيق حلم حياته كلها : ( الغنى بوسائل فقيرة ) 0
و بهذه القراءة ، اطلعنا على كتاب مفعم بكل أحاسيس الصراع العائلي ، بين الابن و الأب ، و ليس الخلاصة تتمثل في الإعلان عن الفائز في هذا الصراع ، و إنما العبرة تكمن في أن الخلف ليس بالضرورة أن يكون أفضل من السلف !
و بالتالي ، كان المترجم مؤلفا" ثانيا" بكل معاناته و اجتهاداته ، وهكذا كان المترجم عباس المفرجي ، يضوع بإناراته حرفا" بعد حرف ، إن لم أقل ضوءاً" بعد ضوء ، و كل ترجماته إضاءة !