اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > شمس سالم الدباغ السوداء... قراءة أوّلية

شمس سالم الدباغ السوداء... قراءة أوّلية

نشر في: 13 ديسمبر, 2013: 09:01 م

لم تكن اختيارات الفنان التشكيلي العراقي سالم الدباغ الأسلوبية, بمنطقة اشتغالاته الفنية التي وجد نفسه منغمرا في فضاءاتها, عمره الفني معظمه, إن لم يكن كله, بنت وقتها, هي أبعد من ذلك بكثير. بل هي تشكلت منذ بداية دراسته الفن التشكيلي في معهد الفنون الجمي

لم تكن اختيارات الفنان التشكيلي العراقي سالم الدباغ الأسلوبية, بمنطقة اشتغالاته الفنية التي وجد نفسه منغمرا في فضاءاتها, عمره الفني معظمه, إن لم يكن كله, بنت وقتها, هي أبعد من ذلك بكثير. بل هي تشكلت منذ بداية دراسته الفن التشكيلي في معهد الفنون الجميلة(بغداد).
في العام(1958). في ذلك الزمن الذي بات قصيا, بحوادثه التراجيدية. كنا طلاب فن مبتدئين, لكن لا أنكر بأننا كنا فضوليين, أو مغرورين بعض الشيء. وأعتقد أنها صفات ورثناها من ذلك الزمن الخرافي. لكن ما أذكره عن سالم الدباغ(ونحن زملاء صف دراسي واحد)، انه كان على مبعدة من مجال تأثراتنا الدراسية بفنانين أوروبيين تشخيصيين معينين. ففي الوقت الذي كنت أنا وزملاء آخرون مشغولين بتأثيرات العديد من الفنانين الأكاديميين والانطباعيين دفعة واحدة. اختار سالم الدباغ رسوم الإيطالي(مودلياني) مجالا لتأثره الدراسي. هذا يعني انه, في الوقت الذي كنت مثل عدد آخر من زملائي طلاب الفن, مشتتين جهدنا بين أكثر من منطقة أدائية فنية أوروبية معروفة بشساعة موشورها اللوني, و تشظي مساحات أعمالها, أو تفتتها وخفتها, من اجل اكتساب المهارة في التلوين ومعالجة الكتلة(الفورم). كان سالم يختزل مساحات رسومه, أو تمارينه الفنية بتقشف لوني ملحوظ. (ما دامت كل رسومنا تلك, هي مجرد تمارين دراسية فنية) وكان درسه الفني الأول تجسيديا تقليليا, أو بالأحرى اختزاليا نوعا ما. 
تشتت سبل إقامتنا ومصائرنا بعد دراستنا في معهد الفنون, ثم التقيت سالم الدباغ بعد ذلك, دارسا في أكاديمية الفنون الجميلة(بغداد), وكان مبتهجا بنتائجه التلوينية و الكرافيكية التي كان لأستاذ الكرافيك البولوني(رومان ارتموفسكي) الفضل في تطوير أدواته التنفيذية. لكن أعمال سالم هذه التي اطلعت عليها, لم تفقد ملامح درسها التقليلي الأول, رغم ابتعادها عن المنطقة التشخيصية. بل هو ازداد ولعا بتقصي إمكانات مساحات العمل المفتوحة على نوايا تجريدات فضاءاتها, واستنطاق حوافها عمقا مضافا, تراجيديات أزمنة قصية فقدت ملامحها, لكنها لم تفقد كثافة ظلالها. وبقي بعد ذلك سالم وفيا لمنطقة ظله. لا من أجل استمرائه الخفاء, بل لعله يسعى لحجب ما يخدش العين, ويشظى الذهن. على أنه لا يفصح عن مغزاه بيسر, و على المتلقي أن يستعين بحاسة لمسه, قبل بصره, لاستكناه ألغازه التي لا تفقد جمالياتها بالمطلق. فالجمال عند سالم هو ماس خام يخزن بريقه خلف تراكمات جييولوجيا أزمنته التنقيبية.
أعتقد أن ميرلو بونتي في() فلسف للجسد الإنساني كوجود عضوي محكوما بكثافة مادته الحيوية التي فوضت لكل جزء من أجزائه حالاته الاستشعارية الخاصة, المحكومة هي الأخرى بكثافة مادتها, وسواء كانت ملمسا, أو ملامسة لإرادتها الخاصة المتشربة لحالات أزمنتها, وحالاتها, أو دورتها الوجودية الخاصة في نفس الوقت. الجسد افتراضا وجوديا, كما أتصوره عند سالم الدباغ ما هو إلا فضاء متماس و نصاعة عتمته التي اكتسبها من بؤرة الضوء التي تعشي, لا من موشوره اللوني. وهو ومن اجل محاورة هذا الفضاء الجسد حاول دوما البحث عن مخارج للتخفيف من صلابة كتلته السديمية, وليس له إلا أن يحاور شظاياها, أو ظلالها الرمادية. فهو إذا مولع, وكما تفصح عنه أعماله, بصناعة حيرة بصرية. لكنها حيرة لا تفصح إلا عن نوايا لمسها والإحساس بخفايا ألغازها التي ليس من الهين اكتشاف مخبوءاتها وسط عتمة تضمر أكثر مما تفصح. لكنها بشكل عام لا تخفي عاطفة من نوع ما, عاطفة تنبثق من عمق العتمة, تشده و تشد, لا تنفر. كما هي في مشهديه تضاريس الأحفوران الجيولوجيا الناصعة السواد, المغرقة في سديمية عتمة تواريخها العتيقة. 
أعتقد أن لكل لون معماريته الخاصة, التي هي بعض من صلابة أو هشاشة موشوره الخاص. وليس غير الأسود من يمتلك ثقله الفيزياوي الذي لا يضاهيه أي لون آخر. وإن كانت الثقوب الفضائية السوداء متاهة بصرية تجذب للمجهول, ولا نهاية واضحة. فان للملونة السوداء نهاياتها الحادة التي تفصلها عن غيرها كتلة لا تفقد هاجس معماريتها الخاصة, حتى وان حاول الفنان تجنب الإفصاح عنها, بوسائله العديدة, فإن كان الثقب الأسود يجذبنا إلى المجهول بقوته الخارقة على الجذب. فان المعمارية اللونية السوداء تجذبنا بتضاداتها الحادة والمفردات الأخرى المحيطة بها. لكن أن تصنع من الأسود وحده عملا, فهو التحدي الذي واجه حداثة الفن منذ أزمنته الأولى, وكانت بنائية(ماليفتش) من أولى التحديات, ثم تبعتها محاولات أخرى وحتى يومنا هذا. سالم الدباغ قبل التحدي هذا منذ أكثر من أربعة عقود زمنية ولا يزال. فأية صلابة إرادة أمتلكها؟
ما هو السر الذي جعل سالم الدباغ يختار الأسود مجالا واسعا لاشتغالات أعماله؟ هل هو نفس السر الذي دفع الهندي البريطاني(أنيش كابور) لأن يختار الأسود ثقبا, أو نفقا يقود للمجهول. وان كانت تقليلية كابور ثقبا أرضيا, فهي عند سالم ثقب السماء بكثافة طبقاتها الافتراضية. فهل الأسود هو مجرد مادة صماء, بما انه لا لون له, كما تدعيه الفيزياء اللونية, أو كما تفصح عنه مجرد خفاء, على الضد من الأبيض تماما. لكنها, وكعلم صرف. تقصي الظاهرة الصبغية التي تعج بها بيئتنا وعمارتنا ومستلزماتنا الشخصية الأخرى. ومنها استقصاءات الطباعة الرقمية(من ضمن استقصاءات أخرى), التي تقر بوجود خمسين ظلا للأسود. كما ان لكل خامة صبغية(بما أننا نتناول نتاج فنان صباغي) أسودها الخاص الذي تختلف درجاته عن الأسود الآخر, ولكل صبغة معدنية أسودها الخاص. فالصبغة السوداء اللامعة, ليس كما الصبغة السوداء الكابية. وعالمنا يعج بالألوان السوداء, التي لكل منها تأثيراتها العاطفية والوجدانية الخاصة. وهكذا يبدو أن سالم الدباغ لم يضيع دربه خلال مسالك الأسود التعبيرية التي كنا نظن بأنها ضيقة لحد الاختناق. ويبدو انه خبر جل مسالكها خلال بحثه الفني المضني للبقاء ضمن وفائه لعوالمها التي لا تبوح بأسرارها إلا لمن تدرب على اكتشاف مسالكها التعبيرية السرية. 
المستطيل, مربع ممدود, فالأصل فيه هو المربع. والمستطيل أو المربع هو كادر الصورة والتصوير. وبلغة الفن, هو(مساحة استيعاب لما لا يستوعب). ورسوم سالم الدباغ, إن صحت تسميتها رسوم, وربما صور كرافيكية, هي, وكما أرى, لا أعتقدها كذلك. بل هي مساحات معمارية مشغولة بهاجس استدراج صفات هيئاتها المعمارية(مربع ـ مستطيل) لاشتغالات فنية, في عملية تحويلية وتحولية. بمعنى الإقصاء تغريبيا, ثم الإحالة على عمليته التعبيرية التقليلية, فهي لا تلغي الأصل المعماري, بقدر ما تسحبه لعوالم ذهنية. ليس غريبا ان ينتبه المزوق العربي القديم, لقيمة الهامش خطيا في المخطوطة, تفسيرا إضافيا, لكن تزويق الهامش هو ما إضافة طرافة لشكله التصميمي. هوامش سالم هي الأخرى تحمل طرافتها. لكنها من نوع خاص. فهي وكما تبدو دوما, حواف العالم الذي غمره الضوء لحد خفائه وباتت مساحته تضيق بصلابة مادتها السوداء, كما هي أيضا حواف تتماس و فضاءاتها الخارجية المعلومة أو المجهولة. مثلما تجلت مهاراته الفنية في اللعب على هذه المناطق, أو المسالك الخارجية الضيقة. التي غالبا ما جعل منها مركزا للشد, أو الجذب و الانبساط, عاطفة تلملم شظاياها وتخبئها ضمن مدارج فضاءات تتدرج رماديتها حتى الانمحاء, في عوالم محكومة بصرامة خطوط تماسها. وتراكمات آثار ملونتها. في الثقافة الصينية(تتفق الألوان مع العناصر الخمسة الأساسية ، و الاتجاهات، و الفصول الأربعة. وارتبط اللون الأسود مع الماء والشمال، وفصل الشتاء). وكما يخبرني الصديق الفنان يحيى الشيخ بأنه يسكن في الشمال النرويجي, في منطقة تعمها الظلمة ليل نهار(تأكيدا للمثل الصيني) أعمال سالم الأخيرة, أشعر بها مغرقة في فصول السنة. فهي تكتنز رطوبة الشتاء, ورياح الربيع وجفاف الصيف. وفي كثافة خطوطها المدارية(حواف العمل) تعلن انتماءها(ضمنيا) لأعمال البيئة. فهل تحققت النبوءة الصينية. ربما هي كذلك, بما أنها مشغولة بتفاني سلوكياته الشعورية. 
مثلما أغرت علامات الجدران المرحوم شاكر حسن آل سعيد. السبورات السوداء هي الأخرى أغرت(جوزيف بويز) أعمالا فنية منذ أكثر من أربعة عقود زمنية. (رودولف شتاينر) الأحدث زمنا من بويز. جعل من قوة الفكر في معادلاته المدونة على سبوراته, أعمالا فنية بامتياز(حفظت أكثر من 1100 صورة لسبوراته خلال محاضراته) وكأعمال فنية. وهناك فنانون آخرون لا يزالون يبيّضون سبوراتهم السوداء مدونات وعلامات ورسوم خطية, وينتجون مشهديتهم الفنتازية التي لا تختلف كثيرا عن أعمال التجريد الجديدة (المعاصرة). ولم تكن ثمة نزوة خلف إنتاج كل هذا الكم من السبورات الفنية. فالوثيقة(مفاهيميا) هي أيضا عمل فني. وهذه السبورات هي الأخرى وثائق وأعمال فنية في نفس الوقت. ولسالم الدباغ وثائق من نوع خاص. وحتى لو كانت تقترب من كونها سبورات افتراضية(في بعض من مناطق تكنيكها) فهي دائما ما تنأى عن العلامات أو الإشارات, كما في الأعمال التشكيلية العربية بشكل عام. هي تنبني على إشباع صبغة نسيجها التقليلي لوحده كعلامة متقشفة مستقلة, لكنها لا تبتعد كثيرا عن جذرها العربي الإسلامي, ليس في منطقة الأرابسك. بل ضمن مجال ذهني تصوفي هو أعمق غورا. والصفاء الذهني من أهم مقومات إنشائها, واشتغالاتها. وإن كان جسد المتصوف لا يستره سوى خرقته. فان اعمال سالم هي أيضا الخرقة والجسد في آن واحد, متلبسين بورطة توحدهما, كائن لا يستر كائن, إلا بما يشف من رهافتهما الأثيرية. 
حينما اطلعت على عمل سالم الدباغ الذي رسمه تأبينا لفقيدنا الفنان(ياسين عطية), تذكرت عمل الفنان التجريدي المعروف(روثكو) الذي نفذه باللون الأسود لمطعم الفصول الأربعة في مانهاتن من نيويورك, وتعليقه على عمله الذي ورد فيه(إنه مكان حيث تأتي أغنى الأوباش إلى نيويورك لملء البطون و للتباهي. آمل في تدمير شهية كل ابن عاهرة من الذين يأكلون في تلك الغرفة) روثكو إذا يعلم جيدا كم يمتلك لونه الأسود من قوة تدميرية, وما على الفنان إلا استدعاء تلك القوة وإيداعها عمله. وأعتقد أن سالم الدباغ فعل نفس الشيء, فانا, وكلما أتمعن بعمله هذا أزداد ضيقا, وأتذكر زنزانة ضمتني منذ زمان, أصبح الآن قصيا, لكن هذا العمل أعادني إليه عنوة. فيا لهول اللون الأسود وتضاعيفه. 
منذ إعجاز الروسي(ماليفتش) في عمله مربع اسود داخل مربع اسود. واللون الأسود ينصب فخاخه لمعظم الفنانين, وخاصة التجريديين بالذات. ما دام حبر الطباعة لم يجف منبعه. وسالم تدرب على الطباعة الكرافيكية عمره كله. وما أعماله بمجملها إلا بعض من صناعته الكرافيكية بخلفية أحبارها السوداء. خاماته الصبغية كلها تدور في فلك أحباره الطباعية الأولى. وحساسيتها هي بعض من حساسية آلة الحفر الدقيقة, وهو لاعب ماهر في تنفيذ حساسية خطوطه التي تلامس مسالكها الحواس الخمس. خبرته من الدقة بحيث تجاري دقة هذه الآلة الحادة, وبالذات حينما تطاوع أنامله مساراته الذهنية و تحفر مسالكها البنائية ضمن طيات تراكم سطوحها, أو خفتها, وبما يوازي بوحه الذاتي. بعيدا عن اللون والصور, غمر سالم الدباغ ذاته الإبداعية في عالمه الذي حددته اتجاهاته الأربع. هندسة مصائر جغرافية. سادرة في عوالمها, لعبة مستطيلات أو مربعات شطرنجية. ولا مكان للانحناء( الانحناء,قوس لين ـ أنثوي), لكن بالرغم من صلابة أعماله, بعتمتها التي تزيد من صلابتها. إلا أن ثمة أنثى من صنف ما تختبئ ضمن تلافيفها. هي رقة من نوع ما, ربما كسبها سالم الدباغ من جلده الدائم للعوم فوق أزمنته, ولينجو من تقلباتها الكارثية. وان بدت رسوم(الفنان الأمريكي ريتشارد سيرا) حساسة مثل الشمس السوداء. وهو المعروف بمنحوتاته التقليلية بصفائحها الملتوية. فان رسوم الدباغ هي الأخرى سعت لامتصاص الضوء, لكن من اجل بثه مرة أخرى, وكما نوتة الموسيقى الناعمة, لكنها الأكثر جذلا وإثارة للحواس. فهل حقق سالم الدباغ نبوءته الأولى لدخول بؤرة الضوء والعوم في فضاءاتها, كائن أثيري لا يمتلك غير أداته التعبيرية, وجذوة من شباب عمره الدائم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

نادٍ كويتي يتعرض لاحتيال كروي في مصر

العثور على 3 جثث لإرهابيين بموقع الضربة الجوية في جبال حمرين

اعتقال أب عنّف ابنته حتى الموت في بغداد

زلزال بقوة 7.4 درجة يضرب تشيلي

حارس إسبانيا يغيب لنهاية 2024

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram