إنها الذكرى العاشرة لاعتقال الدكتاتور اذن، والأمر لايزال يثير سجالا. رجل من عائلتي يقول: دعك من المواقف الانفعالية لمحبي صدام وكارهيه كطاغية ارعن، فبعد أعوام من رحيله هناك كثيرون يأملون بظهور دكتاتور جديد يعيد ضبط الأوضاع، لان الناس سئموا من غياب النظام القوي.
وبكثير من الحيرة إياها، اعلق على كلام الرجل بأن الدكتاتور الجديد لو تشكل فإنه في الغالب، وبعد بضع سنين، سيسوقنا الى الهاوية مرة أخرى، ويصدر أزمة عراق غير مستقر، الى الخارج ويشعل الحروب بمجرد ان يغويه لمعان دراهم النفط ودنانيره. وسنظل عالقين في أزمات بلا نهاية. لكن قريبي يعيد صياغة المسألة بنحو طريف، ويتحدث عن بضعة نظم تسلطية ودكتاتورية اتسمت بالتوازن والعقل، وضمنت مسارا حيويا لبلدانها، ويسأل: لماذا تفترض ان دكتاتورنا الجديد سيشبه صدام ولن يشبه فلان مملكة مستقرة؟
والحقيقة أننا في العراق، لا نحسن صناعة دكتاتور "ابن أوادم"، كما لم نتعلم بعد بناء ديمقراطية "بنت أوادم". وحسب أمثالي ان يرددوا ان صيغة النظام التسلطي لم تعد مناسبة لهذا الزمان، وأن الأنظمة المستبدة "العاقلة والمستقرة والعادلة" (وكل هذا بين أقواس)، هي ذاتها تعاني كثيرا في محاولة الانسجام مع متغيرات القرن الحادي والعشرين، وهي تسابق الزمن لتتكيف مع اشتراطات التاريخ وظروفه، وتدخل سجالا مريرا مع منظمات حقوق الإنسان وحرية التعبير، وتشعر بالخجل حين تناقش هذه المواضيع في الأمم المتحدة او مع حلفائها. وبهذا الاعتبار فلا يوجد حل بالعودة الى نظام متسلط، في لحظة تنشغل بها المنطقة بضرورات التكيف مع عصر العولمة والصراحة وأجيال فيسبوك وتويتر، التي لن ينجح ألف صدام حسين في تهدئتها او التحكم بها. ولا خيار سوى ان نبحث في ركام أخطائنا، عن الطريق نحو النموذج الصحيح للإدارة التعددية اللامركزية والمستندة لقانون حديث.
غير إنني مستعد لأن أتشارك بالبكاء والنواح مع من يذرفون الدمع على لحظة اعتقال صدام حسين. وأرجو من هؤلاء ان ينتبهوا للحظة، ان بكائي وبكاءهم، لا يتعلق بهذا الرجل المهووس الذي ولد ودفن في بلدة العوجة وأضر اهلها قبل ان يضر سواهم، وإنما يحق لنا ان نبكي لأن مضمون النهج الصدّامي، يتحكم بقدر العراق منذ نحو خمس عقود. فطوال السنوات تلك، بقي جزء أساسي من الساسة، يؤمن بأن في وسعه ان يعزل العراق عن العالم ويفعل بشعبه ما يشاء. كما نبكي لأن جزء من العراقيين من كل الطوائف، ظلوا يعتقدون بأن القوة طريق لحسم النزاعات، ويسخرون من دعاة السلام، ولا يؤمنون بالسياسة التي تعني في جوهرها تسوية الخلافات بأقل التكاليف.
نبكي لأن شريحة عراقية مهمة لم تتوقف عن الاعتقاد بأن إلقاء الناس في السجون وانتزاع اعترافاتهم بالقوة، وتخويف عوائلهم وتعرية نسائهم أمام السجناء، حل سياسي لمشكلة العنف.
نبكي لأن عددا من العراقيين من كل الطوائف، لا يزالون يرون ان من حقهم ذبح البشر وتقتيلهم وترويعهم، للوصول الى حقوق سياسية بعضها مشروع والآخر باطل.
نعم يحق لنا ان نبكي العقل العراقي الذي عثروا عليه في جحر الفئران. ونبكي لأن صدام حسين كان صورة لمرحلة كارثية مر بها عقلنا السياسي الغالب. صدام لم يأت من كوكب آخر، بل كان مرآة لمرحلة مجتمعية. ولذلك فقد رحل صدام وبقيت الصدامية، لدى شرائح من كل الطوائف.
لكن ما يفرحني اننا أمضينا السنوات العشرة الماضية ونحن نكافح بقايا الصدامية هذه، وأن التغيير البطيء سيتواصل، كما سيستمر التعلم والتنضيج وسط سيول الدماء. لأن العالم من حولنا يتغير، وليس أمامنا خيار الا صناعة مستقبل يتكيف مع العالم الكبير، حتى لو بقينا نبكي طويلاً.
أبكي على صدام
[post-views]
نشر في: 14 ديسمبر, 2013: 09:01 م
جميع التعليقات 4
علي
احسنت أيها الكاتب الحبيب يجب ان نستمر بالتغيير حتى لو بقينا نبكي دما وكﻻ فمهما بكينا اهون من العودة الى الهدام.
ابو سجاد
الحقيقة اني معجب بهذا التفائل ومن الممكن ان نبني نظام ديمقراطي ولكن كم نعطي من التضحيات مجددا كي نصل الى بناء الديمقراطية امام هذه التحديات
Abu Ahmed
اعتقد ان السيد سرمد يبكي ونبكي معه على حال العراق كما هو واضح من جوهر المقال وارى ان العنوان الموضوع للاثارة غير موفق. ان ما وصل اليه العراق من اوضاع مزرية بعد عشرة سنوات من الاحتلال وبالرغممن الخلاص من الحكم البعثفاشي الارهابي القمعي فان العراق وماسيه ال
كاطع جواد
كلام جميل و علمي و عملي يا استاذ سرمد فإنك والله باحث قبل ان تكون إعلاميا .. وأنك قد تطرقت للظاهرة الصدامية العراقية التي تعشعش في عقول شريحة واسعة من المجتمع العراقي و ان صدام على راس هذه الظاهرة وليس الظاهري نفسها ..فصدام ليس وحده من أسسها انها الطبيعة