TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تناصّ، مُنانصة ومَناصية...

تناصّ، مُنانصة ومَناصية...

نشر في: 15 ديسمبر, 2013: 09:01 م

أنت تقرأ نصاً يؤلّب فاعليةَ العقل أو الروح. يملأ حيزاً في كيانك العقلي والروحي. يجعلك تشعرُ بإضافةٍ في وعيك تُقبل عليك من الكلمات. وبذلك نتحمس لتكرار التجربة في قراءة نص آخر، أو مزيد من النصوص. أحياناً يحدث العكسُ تماماً. فأنت تقرأ نصاً تُحسّ به وهو يُطفئ فاعلية العقل والروح تلك. يُفرغ من كيانك العقلي والروحي عُدةً كانت تشغله، ويجعلك تشعر بفراغ مفاجئ يحتل قدراتِ وعيك. وتحار كيف يمكن للعقل أن يمتلئ ويفرغ بهذه الصورة. وهذا يحدث مع قراءة كتب التنظيرات النقدية في السنوات العشرين الأخيرة. على أني لم يحدث أن قرأتُ وواصلتُ القراءةَ في نصوص تشفط من عقلي مادة المعنى التي هي ركيزة الوعي، وتملأ الفراغ الذي تخلّفه بتهويمٍ لفظي يشبه رجلاً يريدُ أن يقطفَ تمراً من نخلة سامقة، فتراه يحثّ التراب أياماً وليالي حول النخلة حتى يطمرها إلى أعلاها، ثم يعلو التراب بأطرافه الأربعة. لم يحدث أني قرأت وواصلت القراءة في كتاب أو مقال يُخضعني لمسعاه التهويمي هذا. صرتُ بفعل الخبرة ربما، وربما بفعل مخيلة لُدغت من جحر، أرى وراء النص صوراً شتى لكاتبه: نفّاجاً، يُلقي عليك المصطلحات التي لا يُحسن ترجمتَها ويتوهّمها معرفةً. ويتسلّطُ عليك بالجمل المُغلقةِ المُلتبسةِ يحسبها عمقاً. ويحرصُ أن يُريكَ جدَلَه الدؤوب مع منظري النقد الغربي الغائبين، الذين لا تعرفهم. ويكبحُك بلِجامِ الخوفِ من تهمة الجهل. ثم يُشعركَ بأنه ليس وحده فتنفرد به، بل هو واحدٌ من عصبة مرصوصة كحزمة القصب. والدليل ثبتُ مراجعه الكثيرة آخر الكتاب، التي تُفشي الرائحةَ ذاتها. عصبةٌ قوّضت قُدراتِ الكائن على الفهم داخل مؤسسات المعرفة جامعةً كانت هذه المؤسسة، صحافةً أو مؤتمرات. ولكنهم يعجزون عن إدراك أنهم ظاهرةٌ فاسدةٌ فسادَ الثقافة العربية، التي تنحدر منذ نصف قرن، وهي مخدّرة في أحضان المؤسسة العربية الرسمية وغير الرسمية. يعجزون عن سبْرِ غور السطحية التي تميز نثرهم، وتداعيات فكرهم التي لا صلابةَ فيها فتُلمس.
صرتُ أعرفهم حين يُطلّون عليّ، تسبقهم طلائعُ قاموسهم النقدي، الذي لم يتفقْ رأيان على مُفردةٍ واحدة فيه. أشمُّ رائحةَ الطلائع هذه فيسهل عليّ تجنبها، ولك أن تتجنبها معي باليسر ذاته إذا ما قرأتَ مفردات: النسق، الشعرية، التماهي، الانحياز، الخطاب، الفضاء، البنية، البأررة والتبئير، الحقل التناصي والمناصية، السرد والسرديات والسرود، المسكوت عنه، التفكيك...الخ. ولك أن تعرف أن هذه المفردات لن تُقبل عليك منفردةً، فتفهمها بيسر، بل تُقبل عليك مثل خرطوش الصياد. فمصطلح التناص ينتسب إلى عائلة "التناصية"، "التعالي النصي"، "الميتانصية"، "التجاوز النصي"، "المعمارية النصية"، "المنانصة"، "النص المحيط"، "النص الفوقي"، "المناص والمناصية"، "وإن هناك الوضعية المكانية، والزمنية، والجوهرية، والتداولية للعنصر المناصي"...الخ (هذا الإشراق اللفظي أخذتُه من صفحتين أو ثلاث من محاضرة في مؤتمر عن السرد يشترك فيه عشرات الأساتذة لا تختلف لغتهم عن لغته.) ثم ان هذا الخرطوش اللفظي حين ينتسب فسينتسب لسياق لا تُمسك من خيطه أو خيوطه أولاً ولا آخر كهذا السياق:
"..أما الفرضية الثانية التي تجعل المعنى محايثاً للنص، فإن سيرورتها الافتراضية ستنتهي إلى اختزاله مجسداً في بنية ستكون بالضرورة محايثة للنص، أي أنها بنية أنطولوجية. ويكمن المشكل مع هذه الفرضية، في كيفية الوصول إليها انطلاقاً من جعلها هي نفسها وسيلة. ولا يختلف الأمر مع الاتجاهات التي تعترف بوجود معنى محايث للنص، ذلك أنها تحول إجراءات الاختزال ــــ وإن كانت تمتلئ حدودها بالمعاني المستنبطة من موضوع النص ــــ إلى إجراء إيبيستيمولوجي. وينتج عن ذلك عزل النص عن بنيته المعنوية، الشيء الذي يقود إلى تحول إجراءات الاختزال إلى مجرد إطار، أي إلى أشكال مادية متناسقة وفق علاقات (عديمة الشكل) خاضعة لقيود الإجراء الإيبيستيمولوجي...الخ" (ألم تشعر معي بالإفراغ العقلي؟)
النسبة الكبرى من الإنشاء النظري والنقدي يسلك هذا السبيل. والمدهش أن كل تضاعف في أعداد المنظرين يقابله نقصان في عدد الشعراء. حتى أن هناك بلداناً عربية خلت تماماً من الشعر والشعراء، إلا ما توفره نشاطات الإعلام في الصحافة والمهرجان ودور النشر التي تتقاضى أجورها مسبقاً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram