مثل روايات كوتزي السابقة والغنية بالرموز، ومنها "في انتظار البرابرة" و"حياة وأوقات مايكل ك"، فان روايته هذه التي صدرت قبل بضعة أشهر، تنقلنا إلى منطقة غامضة أشبه بالحلم، وبينما تثير تلك الروايات لدى كوتزي ذكريات بلاده، جنوب أفريقيا وتضع القارئ في موقف
مثل روايات كوتزي السابقة والغنية بالرموز، ومنها "في انتظار البرابرة" و"حياة وأوقات مايكل ك"، فان روايته هذه التي صدرت قبل بضعة أشهر، تنقلنا إلى منطقة غامضة أشبه بالحلم، وبينما تثير تلك الروايات لدى كوتزي ذكريات بلاده، جنوب أفريقيا وتضع القارئ في موقف متوتر لا يحتمل، فان "طفولة المسيح" رواية تدور أحداثها في أجواء من التسامح ما بين شخوصها وكأنهم في ضباب كثيف.
تبدأ الرواية بوصولنا في قارب إلى مدينة نوفيللا، في دولة تبدو أنها في جنوب أوروبا، في رفقة رجل يدعى سيمن لديه طفل تحت رعايته واسمه ديفيد، ويقول عنه "انه ليس حفيدي ولا ابني ولكنني مسؤول عنه" وسيبدو بعدئذ ان المسافرين هم لاجئون: قد جاءوا من "مخيم" في مكان يدعى بيلستار، حيث تم تعليمهم الإسبانية ومنحوا جوازين، كان الطفل قد افترق عن والديه، وكما يبدو فان سيمن لا عائلة له على الإطلاق. وهو مثل الآخرين قد تم إلغاء ذاكرته، في رحلتهم إلى نوفيللا، وقد وصل سيمن إلى بلاد لا يعرفها وعليه ان يوطد نفسه فيها، وعليه أيضاً إيجاد مأوى له وعليه العثور على عمل يعتاش منه إضافة إلى الصبي، وان كان سيمن صاحب مهنة أو تجارة في حياته السابقة، فانه لا يقدر على استعادة حياته السابقة، وهو سيكون ممتناً لو وجد عملاً، ان يكون حمّالاً في الميناء، يفرغ السفن أو ينقل الأحمال إلى سطحها، وهو كما يبدو مؤهل للعمل، وسيكون من واجبه العثور على الصبي الذي لا يعرف اسمها، وفيما ان كانت على ظهر هذه السفينة! ومع مرور الوقت نعلم ان سيمن وديفيد أسماء اعتباطية، فلا أحد في هذا المكان يعرف أو تعرف أسماءهم الأصلية، أو أعمارهم، فهذه أمور منحت لهم عشوائياً.
واللغة الإسبانية هي اللغة الرسمية في هذا البلد الجديد، وليست فيها لغة أخرى، ويشرح سيمن لديفيد "كل واحد يأتي إلى هنا كغريب، وقد جئنا نحن من أماكن مختلفة ولنا ماض مختلف بحثاً عن حياة جديدة، وعلينا الانسجام مع بعضنا والتحدث بلغة واحدة.
وفي هذه الرواية لا نجابه ذلك الخوف الموجود في رواية أورويل (1984) ولا ذلك التشوش الضبابي في رواية هكسلي، "عالم حر جديد" بل دولة شبه اشتراكية، حيث تعم المساواة بين الجميع، دون وجود أي تهديد للعقاب، ومجرد ذكر كلمة "شرطة" استخدم مرة واحدة" كتحذير ديفيد عندما يرفض الذهاب إلى المدرسة مثل بقية الطلاب، ولا وجود لمركز شرطة. والأجواء التي تصف المدينة أشبه بالحلم، كما روايات كافكا ومسرح بيكيت، وكوتزي متأثر بصامويل بيكيت، وكانت رسالته للدكتوراه عنه.
ونجد في ذلك المجتمع نوعاً من البيروقراطية تراقب حياة الأفراد من بعيد، ومعظم السكان ممتنون لبقائهم وتزويدهم بمساكن متشابهة، والبعض منهم يشاهد مباريات الكرة، والبعض الآخر يداوم في المدارس المسائية، من اجل تطوير الذات، ويبدو الكل في حالة من الرضا، الضجر؟ الرغبة الجنسية؟ المعاناة, الموت؟ ولماذا الاهتمام؟ كما قال احد المواطنين: "ان توفي فسيذهب لمواصلة حياته التالية.
وسيمن يجد صعوبة في التكيّف، لقد فقد ذاكرته ولكنه يعاني لأنه كان سابقاً يمتلك ذاكرة، وعلى الرغم من محاولته بث الطمأنينة في مجتمع النمل العاملين، فلا شيء هنا يبدو أمراً عاجلاً، ولا شيء يبدو خاصاً، كل شيء عام، وغير شخصي.
وفي هذه الرواية لا يطرح أي نوع من الجنسيات أو الأديان والتقاليد- فلا نجد هنا كنيسة او معبداً أو جامعاً، انه مجتمع مدني، مع برنامج اشتراكي، ويفتقد التاريخ، وكافة سكانه فقدوا الذاكرة، الحب والرغبة وحتى الصداقة الحميمة هي أمور لا يعرفونها، أما الجنس فهو امر غريب في رأيهم للانشغال به. ويطالب سيمن متحدثاً، "هل سألتم أنفسكم يوماً فيما ان كان الثمن الذي ندفعه لهذه الحياة الجديدة، وثمن النسيان غالباً جداً؟ وهو الإنسان الوحيد في ذلك المجتمع الذي يبدي غيضه إزاء فقدان جزء من إنسانيته، ويقول: "مع إشباع جوعنا، تصورتم قدرتنا على نقل أشياء أخرى، واننا سنكون سعداء إلى الأبد"، وفي الحقيقة فان سيمن كان تواقاً لتناول اللحم، "لحم مشوي مع البطاطس أو مغمّساً بعصائر اللحم"، وهو حزين لأن الغذاء في "نوفيللا" يقتصر على البسكويت الرقيق، والخبز ونوع من معجون الفاصولياء، ويقول ايضاً "كل من ألقاه يبدو راقياً وطيباً، وحسن النوايا ليس هناك من يشتم، أو يكذب أو يغضب ولا أجد أي ثمل في المدينة، فكيف يكون ذلك؟ أأنتم تكذبون حتى على أنفسكم؟
وكوتزي في حياته الشخصية لا يتناول اللحم بل يعتمد في طعامه على الخضراوات، وقد كتب على "تناول اللحم" في روايته "إليزابيث كوستيللو" قائلاً: "ان محرقة القرن العشرين في أوروبا، لا تختلف كثيراً عن المحرقة اليومية لآكلي اللحم، وهم بذلك لا يختلفون عن النازية".
وعلى أي حال فان عدم إحساس "سيمن" بالسعادة، قد يكون فلسفياً، انه لا يعود إلى الحب أو الجنس، ولكن "للهوى".
قديماً قالوا "لا يهم كم تملك، فهناك دائماً أمر ناقص"، واسم هذا الشيء الناقص هو الهوى أو العاطفة والانفعال، ان عدم الرضا اللانهاية له، والتوق لشيء ما مفقود هو الانفعالات وطريقة تفكير تخلصت منها، لا شيء مفقود، وذلك اللاشيء هو الذي نعتقده مفقوداً هو الوهم، انك تعيش في الوهم. والوهم من مفردات البوذية: العالم العابر للميول والرغبات هو وهم، وعندما يحرر المرء نفسه منها فهو يحررها من الوهم.
وسيمن المتعطش للجمال النسوي، ويرغب ايضاً باللحم المشوي، ويحاول التسجيل في خدمة "صالون كونفورت" حيث يحصل على جلسات مع عاملات الجنس، ولكن طلبه يرفض بسبب تقدمه في السن.
وفي يوم من الأيام، يتوصل إلى قرار وهو ان المرأة التي رآها تلعب التنس هي والدة ديفيد ويقول لنفسه: "عرفتها حالما وقعت عيني عليها" والمرأة اسمها إينيز، عذراء حسب التفسير السنسكريتي، وبدأ آنذاك يفكر في ان تنتقل إينيز لتعيش في البيت الذي يسكنه مع ديفيد، وبذلك تتشكل عائلة مرتجلة.
وقد يتساءل القارئ: إن كان ديفيد، بشكل ما، هو المسيح الطفل، وهل بليدة الإحساس تعني في الرواية، مريم العذراء؟ ويبدأ الصراع بين الرجل والمرأة حول الصبي، وتريد إينيز ان يعيش معها في منزلها وانه "النور في حياتها، فيما يطلب سيمن إرساله إلى المدرسة، والاثنان متفقان ان ديفيد "طفل استثنائي".
ويبدو "ديفيد" رمزاً في مخيلة عن الطفولة، في العصر الرومانسي، كما جاء في قصائد ووردزورث، ويعني ذلك، ان الطفل قريب من الله، "تتبعه هالة من غيوم التألق" وهكذا يكوّن القارئ بصعوبة ضرورة متماسكة له. وفي بعض الأحيان يبدو ديفيد قلقاً، ربما يعود ذلك إلى شيزوفرينيا شديدة، فلا أصدقاء له، وعندما ذهب إلى المدرسة، وجده معلمه غير قابل للتعلم، وهو يتألق ذكاء احياناً بشكل غير اعتيادي، ثم يعود إلى غضبه وعناده.
وإن كان ديفيد يشير إلى المسيح الطفل، فان كوتزي لم يرسم له صورة مناسبة لسنواته الأولى، اذ ان اهتمامات ديفيد تخص ذاته فقط وليس الآخرين، بل ان ديفيد لا يحس بوجود الآخرين.
وسرعان ما يبدأ الصبي في التحدث في الحديث بأسلوب مفخّم: "ليس لديّ أم وليس لديّ أب، أنا لوحدي فقط". ويقول "أنا الحقيقة" ويقرر طبيب نفساني ان الصبي مريض، لأنه يفتقد الوالدين الحقيقيين، ولا ملاذ لديه في الحياة، وفي الحقيقة ان كافة سكان "نوفيللا" لا ملاذ لهم، ولا ذكريات، بل ان "نوفيللا" لا تبدو حقيقية الوجود، بل إنها رسمت في الذاكرة عبر الخيال، وقد تكون مجرد خشبة مسرح لبيكيت، حيث يقرأ الممثلون أدوارهم، دون ان يفهموها تماماً. وفي تلك الأجواء يقول سيمن: "ان الحياة التي أعيشها ليست كافية بالنسبة لي، أتمنى ان يأتي احد ما، شخص منقذ أو مخلص، يهبط من السماوات".
ويبدو بوضوح ان "طفولة المسيح" تعتمد على الاستعارة، نوعاً من الاستعارة البشعة غير المحتملة، ولكنها ليست استعارة تمتلك شفافية أفلاطون أو اوريل وكذلك ليست تلك الشفافية والاستعارة التي نجدها في رواية كوتزي السابقة "في انتظار البرابرة" أو روايتيه "زمان وأوقات مايكل ك" و"العار" اللتين كان لهما دور في وصف سياسة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، والروايات الثلاث تشكل أساس أعمال كوتزي في الرواية، فهل إنها تمثل الزهد البوذي، انتصار الروح على الماديات، أم ان كوتزي قد اختار هذا العنوان لروايته، إشارة إلى تغلب الزهد على الشهوة! هل سكان "نوفيللا" هم من اللاجئين السياسيين؟ هل انهم أحياء فعلاً، أم انهم أرواح ضائعة متجوّلة؟ هل إنها تمثل الحياة الأخرى ما بعد الموت، كما هو متخيل في كتاب "كتاب تبت عن الموتى؟" ولكن لماذا فقدوا ذاكرتهم، أم إنها محاكاة لرواية جوزي ساراماغو "عمى" التي يصف فيها أثر وباء العمى في مدينة لا اسم لها.
وقد يرى القارئ عند قراءته الرواية أنها تشير إلى الحياة المتواصلة، والالتقاء بالأحبة، بعد الموت، في الجنة.
كما ان "طفولة المسيح" تبدو مشابهة لآراء كافكا عن معنى وأسباب تحمل الحياة الدنيوية التي تفتقد الأحاسيس والغاية والعيش كيفما اتفق.
عن النيويورك تايمز