على وقع ما يجري في سوريا، تتوالد الأزمات في لبنان ببطء، ولكن بثبات، وما أن تخبو نار واحدة منها حتى تشتعل أخرى، مع ملاحظة أن لاحل جذرياً لأي منها، إن لجهة تشكيل حكومة أو الاتفاق على استحقاق رئاسة الجمهورية، أو أي من التشريعات الأساسية التي تموت في أدرج البرلمان، في حين يجري التعبير عن هذه الأزمات بتفجيرات في الوضع الأمني، كما حصل في المربع الأمني لحزب الله في ضاحية بيروت الجنوبية، أو في طرابلس الشام، ثم صيدا وبعلبك، وأخيراً في الهرمل وعرسال الحدودية مع سوريا، ما يعني انشغال الجيش بكل ذلك لمنع العبور إلى حالة الفوضى الشاملة، التي يبدو أن البعض يسعى إليها، ويدفع إلى أحضانها، ويعني ذلك أيضاً استمرار حالة الشلل الاقتصادي، في بلد يقوم اقتصاده على الأمن المفقود هذه الأيام.
الأبواب السياسية مقفلة تماماً، كما يقول رئيس مجلس النواب نبيه بري، إذ يتمسك كل طرف بمواقفه لجهة حصصه في الوزارة، التي تعذر على تمام سلام تشكيلها طيلة عدة أشهر، مع أن التوافق على تكليفه كان شاملاً، ما أثار الشكوك حينها في نوايا عرقلة مهمته، دون تحمل تبعات ذلك، ويستعيد اللبنانيون اليوم أجواء ما قبل التوافق على انتخاب رئيس للجمهورية عام 2007، حيث تصحو من غفوتها مسألة المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الحريري، وتتصاعد التوترات الطائفية حتى بين أبناء الدين الواحد، ومع الأديان الأخرى، وبحيث تتواتر التلميحات حول التمديد للجنرال ميشيل سليمان، كمخرج من أزمة الفراغ الدستوري، بعد أقل من أربعة أشهر تفصلنا عن هذا الاستحقاق، الذي يضم في أعطافه كل الاستحقاقات المؤجلة.
لبنان ليس جزيرة معزولة بالسياج السوري فقط، وحجم التدخلات الخارجية فيه كبير، فأصابع فرنسا الأم الحنون لوليدها الشرعي الذي خلفه استعمارها لبلاد الشام، تحاول هدهدة الأزمات، فيعلن رئيسها دعم بلاده للبنان في كل المجالات وعلى مختلف المستويات، والدعم هنا موجه للرئيس سليمان، الذي زار باريس وأجرى فيها اتصالات سياسية، دعا بعدها اللبنانيين إلى وجوب رفع نسبة اليقظة والوعي في وجه المحاولات المتكررة لنقل أعمال العنف والإرهاب إلى لبنان، والرسالة هنا موجهة أولاً إلى حزب الله الذي انخرط عسكرياً في الأزمة السورية، فنقل تداعياتها إلى لبنان، وبلغة أكثر وضوحاً أعلن السفير الفرنسي في بيروت، أن بلاده تفضل التمديد لرئيس الجمهورية على الفوضى، في حين يسعى الجنرال عون لكسب تأييد الصرح البطريركي، لاختياره مرشحاً لرئاسة قضى نصف عمره في محاولة الوصول إليها، لكنها تبدو عصية على المنال.
اللاعب الأساسي في المعادلة اللبنانية المتمثل بقوى 14 آذار، يدفع باتجاه حسم الأمورعلى كافة المستويات، بتأييده لأية خطوات يتخدها رئيس الجمهورية، استناداً إلى صلاحياته الدستورية، ومنها حسم أمر مشاركة حزب الله في معارك سوريا ضد التكفيريين، فجاء بهم إلى لبنان، ومنها أيضاً إصدار مرسوم بتشكيل حكومة تمام سلام، كحكومة دستورية، بغض النظر عن رضى قوى 8 آذار عنها، مع دعوة الحزب الأصولي للمشاركة فيها شرط انسحابه من سوريا والالتزام بإعلان بعبدا، وهذه مواقف تأخذ بالاعتبار الرأي السعودي، الذي يجد منافسة من مشيخة قطر، التي عاد سفيرها في لبنان لزيارة ضاحية بيروت الجنوبية، في انقلاب على ما كان سائداً من سياسات تجاه الأزمة السورية.
في لبنان ومنذ إنشائه، تلد كل أزمة أختها، وعلى وقع تلك الأزمات تستمر الحياة عند شعب يؤمن بها وبفرحها وبقدرته على العبور دائماً، فهل ينجح هذه المرة أيضاً؟ لننتظر ونرى.