TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > في تحوّلات ساحة الميدان: "أشـــراف رومــــا" يســرقـــون جورج أبيض..!

في تحوّلات ساحة الميدان: "أشـــراف رومــــا" يســرقـــون جورج أبيض..!

نشر في: 18 ديسمبر, 2013: 09:01 م

كل المعالم التاريخية في بغداد فقدت ملامحها، وبعضها لم يحتفظ بأي أثر، سوى ذاكرة الناس وما جاء في كتب المؤرخين والمعماريين عن سِير المدينة ومآثرها. والتغيير لم يكن دائماً نتاج تقادم السنوات والاندثار بسبب عوامل التآكل والتصدع، وربما ظلت باقية بعض المعا

كل المعالم التاريخية في بغداد فقدت ملامحها، وبعضها لم يحتفظ بأي أثر، سوى ذاكرة الناس وما جاء في كتب المؤرخين والمعماريين عن سِير المدينة ومآثرها. والتغيير لم يكن دائماً نتاج تقادم السنوات والاندثار بسبب عوامل التآكل والتصدع، وربما ظلت باقية بعض المعالم التي أتى عليها الزمن، أو صادف وجودها على طريق الحروب والغزوات، لكن العهود السياسية والانقلابات، وما ارتبط بها من تتابع الولاة والحكام والطغاة، هي التي كان لها الدور الأبرز في تخريب الآثار التاريخية، وتغيير معالمها، تارة بدعوى "تحديث المدن"، وأخرى لـ"تنظيفها" من انقاض لا جدوى منها للناس، وخاصة حين يؤدي "تجريش" مناطق كاملة أثرية، أو زراعية خضراء تقي المدينة من الرياح السامة والعواصف الترابية، الى مصادر جديدة للثـروة للحكام وأصحاب النفوذ، عبر تحويل صنفها الى مشاريع سكنية وتجارية.

وقد أدت الحرب العراقية الإيرانية الى إعدام ملايين النخيل في البصرة وغيرها، والى تجفيف الأهوار، وتقطيع الأشجار وكل ما من شأنه منع الرؤية عن عيون عسس الدكتاتورية، او إمكانية إخفاء نشاط مريب يستهدف النظام وقادته.
ولم تختلف "الديمقراطية" وصيغتها المبتكرة بشفاعة الحاكم المدني للاحتلال بول بريمر، عما يفترض أنها نقيضتها من الدكتاتوريات التي تعاقبت على اغتصاب إرادة الناس وسلب روح مدنها. ومن المآثر البارزة للعهد الديمقراطي الذي يُراد له ان يتواصل بوتيرته التي تعايش معها الناس، بما ينطوي عليه من استباحةٍ وتعدياتٍ وقتلٍ ودمارٍ، تقطيع أوصال بغداد العاصمة، واستئثار قيادات الاحتلال وأركان سلطته المدنية، بأجمل بقعة فيها، استمدت تسميتها من ذلك، حين اطلق عليها الحاكم المدني، او غيره، اسم "المنطقة الخضراء"، فتحولت الى ثكنة عسكرية مدججة بالسلاح والكونكريت المسلح، لتصبح واحة من الداخل لورثة الحاكم بريمر، ليس في وارد احد منهم اعادة الحرية لها، لتعود ثانية رئة لبغداد وممراً آمناً يخفف من بلاء الزحام والمتفجرات والقتل على الهوية.
ولم يكن مصير كل ركن في المدينة افضل من المنطقة الخضراء، فكلها تعرضت للاغتصاب الفظ، وتقطيع الاوصال، والحجر على السكان بسلاسل السيطرات الكيفية التي لا تحقق الحماية لغير المقصودين بها من كبار المسؤولين وصغارهم.
وتحتل ساحة الميدان تاريخياً موقع القلب من بغداد، وقد شهدت تحولات شديدة التناقض، لكنها رغم ذلك ظلت مكاناً أليفاً لم يخدش حياءها، او ينتقص من مكانتها وموقعها في نفوس اهالي بغداد، ولم يتناولها المحافظون منهم بالتجريح والتعريض، حتى حينما أصبحت محلات فيها مأوىً للبغاء والبغايا.
كانت بغداد في مختلف المراحل والعهود، خلافاً لايامنا الكئيبة المكدّرة الحالية، قبلة للسواح والفرق الفنية وزوار الاثار والمدن المقدسة. وقد زارها اشهر الفنانين والكتاب والشخصيات الاجتماعية والاقتصادية. وكان بينهم طه حسين واحمد رامي وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، وسواهم العشرات من المشاهير في عالم الفن والكتابة والثقافة. وصادف ان زارت بغداد فرقة الفنان الكبير جورج ابيض عام ١٩٢٦ لتقديم مسرحية "اوديب" لسوفوكليس، حيث تنبأ يومها بنبوغ فناننا الراحل حقي الشبلي، ولم يكن قد تجاوز من العمر الثالثة عشرة.
بعد عدة سنوات، عادت الفرقة المذكورة الى بغداد ثانية لتعرض مسرحية "يوليوس قيصر" لوليم شكسبير. وكعادة الفرق الاجنبية لم تكن تستقدم معها سوى الممثلين الرئيسيين، وتختار للأدوار الثانوية والكومبارس ممثلين من ابناء البلد الذي تعرض فيه المسرحية. لم تجد الفرقة مكاناً لعرض المسرحية افضل من "الميدان". وحين سأل جورج ابيض عن اختيار الكومبارس، وكان المفترض فيهم ان يمثلوا دور "اشراف روما"، قيل له ان بإمكانه اختيارهم من المقاهي المحيطة بالميدان، ومن "درابينها" التي يضم بعضها دور البغاء.
وكان له ان اختارهم من بين اولئك، فألبسهم زي "اشراف" زمن روما مع القلائد التي اشتهروا بها. كانت المفاجأة له، عند عرض المسرحية، ضجيج الجمهور وصخبهم وهم يشيرون لـ"اشراف روما": هذا عبدول النشال، وهذا الحرامي عبوسي، وهذا الكو.... فلان..! 
كانت متعة الجمهور في شخصيات الكومبارس المعروفين لهم في الحياة اليومية بغير ادوارهم على المسرح.
المفاجأة الثانية لجورج ابيض لم تكن ممتعة في اليوم التالي، اذ لاحظ، وهو يستعد للعرض، اختفاء ملابس وقلائد "الاشراف"، فاغتاظ وصرخ بالحاضرين: اين الملابس والقلائد..؟ فأجابه احدهم بصوت الواثق: "سرقها اشراف روما"..!
قال لي صديق: الا ترى اننا بحاجة الى اعادة عرض مسرحية جورج ابيض في سرادق كبيرة في ساحة الميدان، وكل اهالي بغداد سيضمنون الحفاظ على ملابس وقلائد الكومبارس، اذ لم يعد اشراف روما بحاجة الى سرقتها؟ .. !

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 4

  1. طارق الجبوري

    ربط موفق ودقيق وممتع برغم ما يحمله من صورة مؤلمة عما فعله اشراف روما في هذا الزمن تقديري واحترامي

  2. ثامر الزيدي

    موضوع رائع ، تنطبق احداثه مع واقعنا الحالي ، فما احوجنا الى النكة السياسية الساخرة

  3. farid

    أعتقد بالله أخ كريم لقد ذهبت الى بغداد بعد17عام وقد فزعت من رعب المشهد من أول وصولي من المطار وحتى وصولي الى المنطقة سكن أهلي وفي بابها طلبوا بطاقةالسكن وأنا في سيارةالمطار وقلت لهم كيف ومن أين لي بطاقة قالوا أتصل بأهلك لكي يؤكدوا أنت من أهالي المنطقة

  4. عبد الله لقمان

    شكرا للاستاذ فخري كريم الذي عاد بنا لذكريا ت بغداد . لم يخطر على بالي ان اقرا شيئا عن الميدان او ان اراه او اسمع عنه ثانية منذ ان كنت اعمل موظفا صغيرا في مديرية المعارف قرب الميدان عام 1954 . لقد ذكرتنا ياستاذ كريم بكل هذه الاوصاف والشخصيات وغيرها . ولك

يحدث الآن

بالحوارِ أم بـ"قواتِ النخبة".. كيف تمنعُ بغدادُ الفصائلَ من تنفيذِ المخططِ الإسرائيلي؟

تحديات بيئية في بغداد بسبب انتشار النفايات

العراق بحاجة لتحسين بيئته الاستثمارية لجلب شركات عالمية

الكشف عن تورط شبكة بتجارة الأعضاء البشرية

مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram