جلبت هذا الأسبوع وفاة بيتر أوتول النجم الإنكليزي المخضرم المزيد من الحديث عن أيقونة القرن العشرين الضابط الإنكليزي توماس إدوارد لورنس الشهير بـ " لورنس العرب " ، فقد تسابقت شاشات التلفزيون وصفحات الويب واليوتيوب تغطية رحيل أوتول الممثل الذي جسد شخصية
جلبت هذا الأسبوع وفاة بيتر أوتول النجم الإنكليزي المخضرم المزيد من الحديث عن أيقونة القرن العشرين الضابط الإنكليزي توماس إدوارد لورنس الشهير بـ " لورنس العرب " ، فقد تسابقت شاشات التلفزيون وصفحات الويب واليوتيوب تغطية رحيل أوتول الممثل الذي جسد شخصية لورنس التاريخية وكأنهما شخصية واحدة لا فرق بينهما ، فمع مرور الوقت اندمجت الشخصيتان ليتوحدا معا وكأنّ هناك تقاربا غريبا بينهما تعززت فيه أسطورة لورنس - أوتول خلالهما ، ففي أحدث كتاب عنه للكاتب والصحفي الأمريكي سكوت أندرسون " لورنس في الجزيرة العربية : حرب ، خداع ، حماقة إمبريالية ، وصناعة الشرق الأوسط الحديث " ، كتب عنه يقول : إن شخصيته كضابط ودبلوماسي في الحرب العالمية الأولى شكلت مصير هذه البقعة من العالم ، وعلى الرغم من أن كل موضوعات الكتاب كانت رائعة ، لكنه أغفل دور الممثل أوتول في جعل هذه الشخصية خالدة حتى الآن .
ونحن على أعتاب الاحتفال بالذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى فقد بدأ بالفعل وابل من الكتب يتصدر المكتبات يبحث في أسباب وعواقب ذلك النزاع من المرجح أن نجد بين ثناياها شرحا للدور الخطير الذي لعبه لورنس والذي سجل وقائعه الصحفي الأمريكي توماس لويل بعيد انتهاء تلك الحرب عام 1919 وقام بعد أكثر من أربعين سنة المخرج الإنكليزي ديفيد لين بإخراج قصته عام 1962 نقلا عن تلك اليوميات ، وقد اختار لتجسيد تلك الشخصية الأسطورية الممثل بيتر أوتول الذي ذاع صيته في السينما الإنكليزية ومسارحها فقام مع لين بجولة استباقية للجزيرة العربية حيث تعرف على الثقافة البدوية وكيف يحيون في ظل تلك الصحراء اللاهبة المترامية الأطراف ، وتعلم كذلك ركوب الجمال وأصبح قريبا من لورنس في كل ما كان يفعله آنذاك حتى في غزواته الحربية .
لورنس لم يكن محاربا فقط بل كاتبا لأحد أهم الكتب التي صدرت في القرن العشرين المنصرم هو كتاب " أعمدة الحكمة السبعة " الذي هو عبارة عن مذكرات شخصية يروي فيها أحداث الحرب التي جرت وقائعها في شبه الجزيرة العربية ضد الإمبراطورية العثمانية ، هيليل هايكين أحد الصحفيين البريطانيين الكبار كتب في إحدى مقالاته الصحفية عن هذا الكتاب قائلا :
- هذه وقائع استثنائية قد يتصورها القارئ محض خيال ، فالكتاب يكاد يكون أعظم رواية للحرب في الأدب الإنكليزي .
هالكين يثيرتساؤلا في مقاله ذاك حيث يقول :
- الروائيون الإنكليز الذين قاتلوا في الحرب العظمى لم يكونوا بمستوى لورنس المحارب والكاتب والروائي فكل الروايات العظيمة التي خلدت تلك الحرب دارت رحاها في الجبهة الغربية ، لورنس وحده كتب عن مكان آخر لا يقل أهمية بل قد تكون جزيرة العرب هي مفتاح الهزائم لدول المحور .
هالكين يذهب أكثر من ذلك حيث اعتبر لورنس القلب المقدس لذلك الصراع الذي أنهى وإلى الأبد خرافة العثمانيين في جزيرة العرب ، هو يذكرنا بعصر سابق للرجولة ، فارس بمعنى الكلمة ، نصفه ريتشارد قلب الأسد والنصف الآخر روبن هود في كل ملاحمهما القتالية ، هو أضاف عليهما أعمدة حكمته السبعة يمكن لقارئها اعتبارها غنائية شعرية بالغة الحكمة رائعة لخصت تجربة الحرب وما بعدها وقد تكون قد أضافت الكثير على من سبقتها إذا ما اعتبرنا أن فورد مادوكس فورد الروائي والشاعر الإنكليزي الذي أتحف المكتبة البريطانية بجليل أعماله من روايات عن الحرب التي شهدت له أنه أحد أكثر من أسهم في تطوير الأدب الإنكليزي ، أما في الجانب الفرنسي فلا غرو من اعتباره قد فاق رواية " الخوف " لغابرييل شوفالييه والتي نشرت عام 1930 التي حملت اتهاما صريحا ضد الحرب ، أو رواية الألماني إريك ماريا ريمارك الشهيرة " كل شيء هادئ على الجبهة الغربية " ، والذي قرأ كتاب لورنس وأطلع على دوره الكبير في الحرب لا يشك أبدا بشجاعته وتحمله للصعاب التي واجهته في تلك البقعة من شبه الجزيرة العربية بأرضها وناسها ومخاطرها ، ولكن من المؤكد أن العديد من الرجال الذين قاتلوا على الجبهة الغربية كانت لتتساوى فضائلهم معه والفرق الوحيد بينهما هو أنه وبعد قرن من الزمان يبرز اسمه عليهم جميعا ، لكن السؤال هنا لماذا كل هذه الشهرة وذلك البروز ؟ والإجابة قد تكون أن الملايين منهم طحنتهم تلك الحرب أو كانوا أسرى أو قد تكون أفعالهم غير معلنة أو لم تظهر قوائم بأسمائهم لاعتبارهم في عداد المفقودين ، في خضم ذلك كان لورنس الوحيد الذي حفر اسمه بين تلك المعارك حيث سعى لإنقاذ الجبهة الداخلية البريطانية التي كانت تترنح من الخسائر التي واجهتها في الحرب مع عدم وجود نهاية في الأفق لها بتوارد أخبار النكسات العسكرية في الجبهة الفرنسية والروسية وغيرها ما جعل من لورنس يعيش استقلالية خاصة به أبعدته قليلا عن سلطة قرار بريطانيا السياسي والعسكري ضاربا بعرض الحائط قيود الجيش النظامي التي سمحت له بكل حرية التنقل وحتى ارتدائه للملابس العربية وتعزيز مكانته بين القبائل هناك .
من بين ما يمكن ملاحظته في فيلم " لورنس العرب " لديفيد لين تأكيده على حرب العصابات التي قادها لورنس بنجاح ضد الأتراك ، حيث اتبع تكتيكا جديدا فيها تمثل بإرباك خطوط إمدادهم وإعاقة اتصالاتهم وتجنيده المئات من البدو الذين أذاقوا الأتراك مر الهزائم ، هذه السياسة الحربية أخذ بها الجنرال اللنبي باستيلائه على مدينة القدس وطرد العثمانيين منها ، حيث وصف المؤرخ لويل توماس في كتابه " مع اللنبي في فلسطين ولورانس في الجزيرة العربية " ، أن خبرة وحنكة لورنس العسكرية كانت حاضرة لدى اللنبي وهو يدك أسوار المدينة القديمة في فلسطين .
لم تقف شهرة لورنس العسكرية عند ذلك التاريخ فقط بل انتقلت لتدرس في المدارس الحربية الحديثة خاصة في مجال الدفاع عن النفس وكيفية تجنيد المتطوعين والهجمات المرتدة والتنقل في الأراضي الصحراوية وسط أجوائها الحارة التي أعطت له تميزا في هذا المجال لم يتح لأقرانه الذين وجدوا أنفسهم عالقين في وحل أراضي الجبهة الغربية التي حاربوا فوقها لأن حرب الصحراء وبحكم تعريفها تختلف اختلافا جذريا عنها ، لكنه بحنكته وذكائه استطاع التغلب على مصاعبها وتقليل خسائره فيها ، على عكس ما جرى للبريطانيين في الجبهة الغربية حيث خسرت 000 / 60 ألفاً من جنودها في معركة السوم والتي اعتبرت من أكبر المعارك في الحرب الأولى أواخر عام 1916 .
ومع انحسار الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية نمت مكانة لورنس عند الذين يتوقون لإعادة أمجادها في ماضيها الاستعماري الغابر ، فكان فيلم ديفيد لين " لورنس العرب " استعادة لتلك الذكرى وصورة من البطولة جسدها بيتر أوتول بنجاح فاق كل تصور والذي ما أن يذكر اسمه حتى يتبادر إلى الذهن ذلك الفارس الإنكليزي الذي ركب الأهوال والذي أصبح أحد الرموز الكبيرة في تغيير صفحة الحرب لصالح الحلفاء وتعزيز مكانتهم هناك.