(2 – 2)
في جملتين أودّ وضع القارئ في سياق العمود السابق: يعاني مفهوم (الواقعية) من الالتباسات، وتبدو ثقافتنا العربية وكأنها لم تبلور تحديداً دقيقاً للمصطلح الذي مرّ بتطورات ومراحل وفترات وشهد تغيرات في أوروبا.
لقد انبعث الاهتمام بنمطٍ من أنماط الواقعية في القرن السادس عشر الميلادي في هولندا وفي فرنسا مع موضة ما نسميه اليوم (بالطبيعة الصامتة). غير أن الاتجاه الأوروبيّ الساعى إلى تمثيل الحياة الصامتة الذي سيزدهر في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لم يكن يمتلك همَّ الارتباط برسم الأشياء أو الموجودات اليومية بشكل دقيق فحسب، ولكنه كان كذلك مهموماً إدانة (الحقيقة العميقة) لهذه الأشياء. إنها مرسومة لكي تطرح أسئلة عن تصوُّرنا الذاتيّ للواقع والأعراض التي تشوب رؤيتنا له. لذا لا يبدو الرسم مجرَّد تقليد خدّاع للعالم قدر ما هو بشكل خاص (رؤية) و(شهادة) على العالم. إن المسافة مهمة ويتوجّب أخذها بالاعتبار بين (التقليد) المباشر للواقع وبين كونه (رؤية) لهذا الواقع نفسه.
وعودة إلى تاريخ مفهومة الواقعية في أوروبا نقول إن ثباتاً واقعياً ذا طرافة قد تطور في هولندا لدى فنانين عديدين بدءاً من كانتان ميتسيس ثم بروغل وأدريان فان اوستاد وجان ستين، وكلهم كان ينقـِّب في مشاهد الأعياد والمناسبات العامة ومشاهد الألعاب ويسجّل الحياة اليومية للفلاحين أو يلتقط مشاهد البيوت البرجوازية ذات الأبهاء الموسومة (بواقعية باردة). ومن مصادر الاستلهام نفسها ستتطور في إسبانيا مدرسة واقعية يمثـِّلها موريللو ("أطفال يأكلون العنب والبطيخ" 1650-55) والرسام الإسباني الشهير فيلاسكيس وكانت تقدِّم ببهاء بصريّ، مشاهد عريضة ضخمة الأحجام لقطاعات إنسانية متجمهرة في الحقول وفي الاحتفالات، من كلّ الطبقات والفئات، ومن الرجال والنساء الأسبان. هذه الواقعية تتعارض مع تعبيرات الرسم الأكاديمي المنتصِر يومها في جميع أنحاء أوروبا والذي طلع ضده قبل ذلك الإيطالي الكبير كرافاجو بتكويناته التشكيلية غير المثالية ولقطاته الدرامية المُشدَّد عليها بإضاءة عنيفة نادراً ما شهدها تاريخ الفن.
في القرن التاسع عشر الأوروبي فإن الملاحظة (الموضوعية) للعالم سيرافقها وعي سياسيّ حادّ بحيث أن الفنان كان يسعى إلى أن يحلَّ موضوعه الفني في قلب سياق اجتماعي محدّد. هكذا نصل إلى الفنان الفرنسي كوربيه الذي حقق سنة (1848- 1849) لوحة تمثِّل تقاليد الريف كما كانت معروفة منذ القرن السابع عشر وتنقلها إلى العالم المعاصر له .هذه اللوحة تستحق وقفة طويلة بسبب تأثيراتها المباشرة على الفترة التاريخية لكوربيه كما على تلك الفترة الواصلة إلينا عبر ألف طريق ملتوٍ وطريق من تلك الطرق التي تـُفقد، في نهاية المطاف الدرس الواقعيّ مغزاه في العالم العربيّ.
عبر حجم لوحته ومضمونها كان كوربيه يريد أن يقوم بتجديد رسم (التاريخ) عارضاً البشر مثلما هم في الواقع من دون أيه نزعة بطولية، ولا بوضعهم في زمان مثاليّ كما تريد الصيغة الأكاديمية. لنلاحظ أن مفهومات مثل (النزعة البطولية) و(الزمن المثاليّ)، هما مبدآن من مبادئ الرسم الأكاديميّ الأوروبيّ. واقعية كوربيه، وهذا شيء جديد تماما في تاريخ الرسم الواقعيّ، تغدو تعبيراً عن تجربة (الذات)، عن (الذاتيّ) بمعناه الفلسفيّ، وعن وجهة نظر شخصية عن الواقع تتعارض مع مفهومة موضوعية محض عن العالم. العالم يتبقى هو العالم الخارجي المرئي نفسه ،لكنه مشحون الآن برؤية الفنان الخاصة.
هل لدينا مفهوم دقيق عن الواقعية؟
[post-views]
نشر في: 3 يناير, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...