اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > الروح.. في زمن المعاصرة الفنية ونهاية الأيديولوجيا

الروح.. في زمن المعاصرة الفنية ونهاية الأيديولوجيا

نشر في: 3 يناير, 2014: 09:01 م

هل أفصحت أعمال ما بعد الحداثة النموذجية عن كونها سلعة تحمل بذرة دمارها, أم أنها أعمال عابرة للزمن, بما أنها لا تنتمي لصانعها, إلا بحدود زمن إنتاجها الشخصي, كما تدعي فلسفة ما بعد الحداثة. لكن, وفي هذه الحالة, هل هي نتاج أو ناتج جمعي سخر الأدوات الشخصي

هل أفصحت أعمال ما بعد الحداثة النموذجية عن كونها سلعة تحمل بذرة دمارها, أم أنها أعمال عابرة للزمن, بما أنها لا تنتمي لصانعها, إلا بحدود زمن إنتاجها الشخصي, كما تدعي فلسفة ما بعد الحداثة. لكن, وفي هذه الحالة, هل هي نتاج أو ناتج جمعي سخر الأدوات الشخصية, بمرجعيات إيديولوجية مقننة ضمن مصالح فئوية،التي غالبا ما تستعين هذه الفئة بالقرار السياسي لخدمة مصالحها المشتركة. بما أننا لا نستطيع إنكار حجم التعاون أو الإسناد ما بين عرابي السوق الفني الأكثر تأثيرا, في وقتنا هذا, والسلطة السياسية الثقافية. ما دام المال المتبادل هو الفيصل في ما بينهما. وما بين دعم رأسمال السوق الفني الانتقائي للمؤسسات الفنية الوطنية, الذي بطياته السعي لإشاعة الذائقة الفنية المناسبة لمصالح السوق نفسه على حساب القيمة الفنية, بمعزل عن الجودة والمضمون وعلاقتهما بالروح والثقافة وآفاقها المستقبلية التي تبني الشخصية الإنسانية, لا تشظيها, أو تصنع منها روبوتا تقنيا يؤدي وظيفة واحدة فقط.
خلقت البرجوازية الأوروبية تقاليدها الأدبية والفنية, لكن ليس بعيدا بأية حال عن عالم الروح, الذات ـ روح, أو الطبيعة ـ روح. وحاولت بكل وسائلها الحفاظ على هذه التقاليد, التي غالبا ما تتعرض لانتهاكات أزمنة الحروب التي خلقتها مصالحها المادية. ثم حدثت الهجمة على تراثها الثقافي والفني من قبل الرأسمالية المعاصرة الشرسة، التي عبثت بكل الإرث البرجوازي الإنساني, وفتت عالمه وأدخلت تفاصيله في متاهات اللامعقول واللا معنى واللاشيء. وسخرته لمجال السخرية والعبث. مجالا لأنشطة تجارة أسواقها الفنية. وبات الفن سلعة قابلة للتعليب بمواصفات لا يهمها عنصر الإبداع, بقدر القدرة والقيمة التسويقية المحدد سعرها مقدما، أو الذائقة المتهافتة الزائلة, والمستبدلة باستمرار.
إعادة طرح الأسئلة الخاصة بالسعادة والمتعة وعلاقتهما بالروح, لنظريات ما بعد الحداثة, تصطدم بمشروع تكريس مبدأ التفكيك إلى ما لا نهاية, وإلقائنا خارج تواريخنا الشخصية لصالح التيه في أوهام المعاصرة المنفلتة والمعترضة على كل العصور. لكنها, وفي نفس الوقت, لا تخفي انتماءها لعصبة الرأسمال الشرس, وهيمنة مؤسساته الثقافية الفنية. التي قسمت العالم بين حفنة من أغنى الأغنياء, وغالبية أناس القارات الخمس التي تشكو نقص موارد عيشها, ولو بدرجات متفاوتة. إذا ما عرفنا بأن احد هؤلاء الأغنياء(كارلوس سليم) مثلا, تعادل ثروته وحده (6.6) من الناتج المحلي للمكسيك. وكمثل على حجم التضليل. فان (95) مليون أمريكي ولدوا بين عامي( 1982 و 2004) يعيشون ويتنفسون من وسائل الإعلام الاجتماعية, التي تتغاضى عن هكذا فروق كارثية في حجم الثروات الشخصية التي تسيطر حتى على وسائل الإعلام والتسويق عبر خطوطها المتشابكة في الفضاء العالمي, المعولم المصالح.
أرنست فيشر في كتابه(الفن ضد الإيديولوجية) يرى بأن (الفن الأصيل يقوم دائما بتصعيد حدود الإيديولوجية لعصره، مانحا إيانا تبصرا بوقائع تعمل الإيديولوجية على إخفائها عن ناظرينا.) إذا كانت الأيديولوجيا(وعيا زائفا) لادعائها الحقيقة المطلقة،كما يتذرع بذلك منظّرو السوق الإمبريالي الحر أيضا, وكمخرج لكونهم فوق الأيديولوجيا أو خارج أطرها التنظيرية. لكنهم, وفي نفس الوقت, يتغاضون عن تسويق الإيديولوجية الدينية المتطرفة لبلدان العالم الثالث، بمفاصلها المعادية للثقافة والإبداع الفني والحرية الشخصية. و يبدو أن لكل حصته التسويقية غير البريئة, ما دامت تعتمد تصدير ثقافة القتل وأدواته الإعلامية المضللة والفائقة القدرة عل تفتيت الموروث الثقافي المحلي, وخلق الثغرات, من اجل المباشرة بتسويق ذائقة معولمة غير مستقرة وسريعة الاستبدال, أو الزوال. بعد صراعات محسوبة لخلق الفراغ السياسي وإشغال الثقافي بحوادث جانبية تبعده عن مركز القرار. كما حدث لعدة بلدان آسيوية تعرضت لإعادة التأهيل السياسي بأدوات خارجية. وكبلد مثل العراق, الذي توزع مبدعوه الثقافيون والفنانون على امتداد مساحات العالم شرقا وغربا. وبات مصطلح فناني الداخل, وفناني أو مبدعي الخارج, نافذا في وسطهم الثقافي. المهم, أن العديد من أفضل فناني هذا البلد هم مبعدون أو مهجرون أو اختاروا المهجر إقامة لهم. وبات من العسير معرفة مديات إنجازاتهم, بل حتى مرجعياتها الفنية أحيانا. وتم تشتيت الشمل بأقسى الوسائل. 
لم يكن الفن الحديث في نهاية القرن التاسع عشر, وكنتاج لبرجوازية صاعدة , يخلو من بعض أهم رموزه الفنية التي خطفتها أرواحها الهائمة, فنانون غير افتراضيين, لم يكن همهم الوحيد تحقيق المتعة البصرية فقط, ولا من أجل تغيير الذائقة الفنية لقرن جديد, سواء بتأثيث منجزها بتفاصيل الطبيعة أو المحيط الاحتفالي أو الاحتفائي. فلم يكن(فان كوخ) , أو (جوجان), ولا كان(أدوارد مونش), يهمهم من التحولات الانطباعية في الفن, إلا ما يساعدهم على الغوص عميقا في دواخل النفس الإنسانية, وحيث تقودهم أرواحهم اللائبة اللا مستقرة, لتأخذهم حتى تخوم الإدراك المرهف, وما بعده من إحساسات عميقة. رغم كل ما أشيع عنهم من حدوث خلل نفسي عصابي كان متحكما بأفعالهم وتهويمات عوالمهم. لكن, قبلهم, هل كان(وليم بليك) هو الآخر عصابيا، أم يرجع الأمر إلى سر إدراكه الميثولوجي المرهف ورؤاه وآرائه الدينية الثورية, في القرن الثامن عشر. وحيث الجنة عنده هي قلب الإنسان،كما القلب عند فنانينا المذكورين, هو مركز الشعور أو الإدراك الوجداني. وإدراك القلب عند الفنان يختلف عن إدراك العقل. وحيث كان للرومانسية فنانوها العرفانيون أيضا , مثلما للانطباعية والتعبيرية المبكرة أنبياؤها المبشرون بالروح جوهرا للتعبير عن لوعتهم وشقاء أزمنتهم و أقدارهم المرهونة بأزمنة عدم إدراك أفعالهم الفنية وحسيتها الوجدانية المفرطة، العابرة لسكونية أزمنتها ووقائعها المبهرجة الزائلة. سعت ما بعد الحداثة لتفتيت السلطات أيا كانت, بموازاة تفكيك سلعة المعرفة. ولا يهمها شيء لتأصيل التجربة الفنية, بقدر من سيادة النهج التلسيقي(الكولاج) اللا شخصي, السخرية, اللعب بدل الحقائق الكامنة, تفضيلا للجاهز والمهمل والإعلاء من شأنه, الاستيلاء على وظيفة وسائل الإعلام, الزخرفة والسطحية بدل البحث الجاد, الشعبية(البوب), رفض الحدود والأنواع, ثم الانتشار, لا الفئوية أو الطليعية, بهدف الوصول إلى جمهور أوسع. أعمال بهذه المواصفات, بالتأكيد لا تنتمي لصانعها, بقدر انتمائها لشروط التسويق وتدوير بضائعه, مثلما تدويلها. هي شروط لا تسمح بظهور فنانين كفان كوخ وأمثلته الحداثية المتعددة. ما دامت تتناقض رؤاهم وأطروحاتهم الفنية بجذرها الوجداني العميق, وفلسفة الفراغ الروحي ألما بعد الحداثي. وإن ظهرت أسماء فنية بهذه المواصفات, رغم كون أعمالهم تراعي صفات التغيرات التراكمية الثقافية الفنية. فبالتأكيد سوف ينبذهم السوق الفني المعاصر, لتعارضهم وشروطه النابذة أو الرافضة لتدخلات الذات الحساسة أو الملهمة في عملية إنتاج العمل الفني. بما أن فن ما بعد الحداثة هو ترانستالي متفانٍ في رفضه ومغايرته لكل العصور السابقة, رغم كل سرقاته أو سلطة نهب تراثها لصالح مصلحة التسويق, لا التأصيل.
الفيلسوف الياباني (ياناجي سوتسو) يرى بأنه(ليس مهتما بالقمر دون السحب). يوافقه الرأي(أكيكو هيراي ديه) بان جماليات النقص متجذرة في الأصل الياباني, وحيث الكمال هو حالة ثابتة وليس هناك مساحة لخيالنا., الأعمال الفنية الشعبية(البوب) ومنذ الستينات لم تترك للفراغ من مساحة للتأمل. وكما هي في أعمال إيقونة البوب(وارهول). فالصور عنده, لم تتجاوز أصلها الفوتوغرافي, إلا بحدود كونها ملصقات مدينته الافتراضية المعاصرة. صور انسلخت من مرجعيتها الصورية الضوئية, لصالح ملونة صنعتها العمومية الجديدة, لا الوجدانية الذاتية. شهادة براءة اختراع عصر فني جديد. لكن بدون ثغرة أو فراغ ما يسمح لمجال التأمل. وما على وارهول إلا أن يسحب أي صورة أخرى من أرشيف فوتوغراف مدينته أو أرشيفه الخاص, ليحولها فنا تتداوله منتديات وقاعات الفن المعاصر. اكتشافات جديدة تتعدى قيمتها الفعلية لصالح قيمة السوق وآلته الإعلامية.
ليس من فلسفة أعم في وقتنا الحاضر, من الترويج للاشتغال على تعميم اللا معنى, كقيمة فلسفية جديدة تعارض إرث الاشتغال على استقصاء المعنى. ما يؤكد ذلك هو سيادة الاتجاهات التي تنتقد أعمال العقل والعقلانية في مجال الفكر الكلي، والترويج للهامش, للظل والموقوت والزائل, وانتفاء القيمة المعنوية. صحيح أن ذلك أدى إلى تصدع الأيديولوجيا التقليدية وانحلاها, حتى انحسارها. لكن في نفس الوقت, تم فيه السعي الحثيث لإقصاء عامل الروح. من خلال تعارض, أو تصادم شقها الذاتي وصنوه الموضوعي أو العقلاني. وصولا إلى ترويج صياغات أو صناعات الموضوع فقط. 
ضد الأيديولوجيا, بمعناها المعاصر, هي إيديولوجيا الترفيه، الوجبات السريعة, العطور, الملابس, أفلام الغرب ومصاصي الدماء والجريمة. وألعاب الفيديو, والفكاهة ونصوصها الهابطة. مستجدات تراث الفوبيا الدينية وأمراض العصر الثقافية. أعمال التلسيق, ميكانيكيا الصورة الجديدة. أيديولوجية سد الفراغ, ولا مجال للصغير والكبير للتأمل. مكننة الذات, مرورا بمكننة الشعور والإدراك الذاتي. عصر النهايات, ولا نهاية واضحة. وليست الروح في زمننا المعاصر إلا شذرة عائمة هائمة جرى تفتيتها, وسقطت من عليائها. وباتت زائدة على الحاجة, ضمن إلحاح مختلف الاحتياجات الميكانيكية أو التقنية الأخرى التي بتنا من صناعها ومستهلكيها وإن كانت أخطاء الأيديولوجيا, والخطأ جذر كامن في زاوية ما من أفعال أذهاننا وأبداننا. لكن هذا لا يعني استبدالها بمتاهات السعي الدائم لإفراغ أذهاننا من كل فعل وردة فعل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الرافدين يطلق رواتب المشمولين ضمن شبكة الحماية الاجتماعية

بالوثيقة.. التعليم توضح بشأن توسعة مقاعد الدراسات العليا

العدل تعمل على خطة تجعل من النزلاء يكملون دراستهم الجامعية

ارتفاع بمبيعات الحوالات الخارجية في مزاد المركزي العراقي

رسمياً.. أيمن حسين يوقع على كشوفات الخور القطري

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

باليت 42 بدايات عام جديد

السُّخرية السريالية ودلالة الأيقون في أعمال الفنان مؤيد محسن

المصرف الزراعي في السنك: بزوغ الحداثة المعمارية العراقية

عمارة تلد مسابقة!

دار هديب الحاج حمود.. السكن رمزاً للانتماء

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram